رئيس وزراء الهند نارينردرا مودي
رئيس وزراء الهند نارينردرا مودي

من حيث عدد السكان، الهند على وشك تجاوز الصين لتصبح الدولة الأكبر في العالم. ومن حيث حجم الاقتصاد،  بعض التوقعات المتفائلة تريد لها أن تصل إلى مضاهاة الصين والولايات المتحدة، وربما التفوق عليهما. ومن حيث الموارد البشرية والقدرة على الإبداع، لا شك أن الهند للتوّ في طليعة الدول المصدّرة للكفاءات، ولا سيما منها التقنية، وبعض أنجح الشركات العالمية هندية التأسيس والإدارة والرؤى. أي أنه للهند من المعطيات والمقومات ما يسعها أن ترتقي بالفعل إلى المقام الأول عالمياً في العقود المقبلة. ولكن ...

احتمالات أن تبلغ الهند هذا المقام تضاءلت وتستمر بالتضاؤل بشكل كبير مع توالي السياسات التي يعتمدها رئيس وزرائها الحالي نارينردرا مودي، منذ توليه المنصب عام 2014. هي سياسات تسير باتجاه الاستجابة لتصوّر فئوي للهند، ينفي هويتها التعددية وأساسها العلماني وتوجهها المنفتح، ويستعيض عنها بقراءة تعسفية للتاريخ والحاضر الهنديين، وببرنامج ينسجم مع الرغبات الإقصائية والكيدية  المبنية على طروحات عقائدية دينية.

في حين تقع المسؤولية الآنية على عاتق مودي، وتوجه «الهندوتسڤا» الذي يلتزمه، فإن أسباب هذا التفريط الحاصل بمستقبل الهند وموقعها المتقدم عالميا لا تقتصر على خطوات مودي وممارساته، بل المسؤولية مشتركة مع سائر مقومات المشهد السياسي والاجتماعي والديني في الهند.

عام 1947كان عام حصول الهند على استقلالها من الاستعمار البريطاني، ولكنه كان أيضا عام تقسيمها. في حين أن الولايات والمقاطعات الهندية ذات الأغلبية المسلمة، في شمالي شرقي البلاد وشمالي غربيها، ذهبت باتجاه الانفصال لإقامة دولة پاكستان، بجناحين غربي وشرقي (قبل أن تتشظى عام 1970 لينفصل الجناح الشرقي بعد طول قمع وإهمال واستغلال، ويصبح بنغلادش)، فإن ما تبقى من الهند، بمكوناتها الهندوسية الأكثر عدداً، والمسلمة والسيخية والمسيحية والبوذية والجاينية وغيرها، لم تذهب، بقرار من حزب المؤتمر البارز والحاكم فيها، باتجاه محاكاة پاكستان، لتمسي دولة هندوسية، بل ثابرت وأصرّت على المحافظة على الطابع الجامع للهند.

جمهورية الهند شاءت أن تكون الوريث للهند التاريخية، وأن تعتنق توجهاً علمانياً صريحاً في معالجة مخلفات المراحل الماضية، سواءاً منها الانقسامات العامودية، والتي نشأت واستفحلت على أساس الانتماءات الدينية والطائفية والعرقية واللغوية، أو الاقتطاعات الأفقية والتي تظهر في الهند بشكل طبقات مادية، أي اقتصادية اجتماعية تشترك فيها الهند مع سائر العالم، ثم بشكل طبقات معنوية، تفرز السكان من حيث المقام والمكانة والدور الاجتماعي والمهني إلى فئات تراتبية راسخة يحظّر التقليد الخروج عنها، وهي ظاهرة هندية بالدرجة الأولى.

هو مشروع طموح، هذا المشروع الهندي الذي شاء أن يرتقي بالبلاد إلى كامل مستطاعها، أن يحتضن لغاتها وأعراقها وقومياتها، على أساس المساواة وتحقيق الحقوق، في إطار جامع يجعل من التعددية المركّبة، التي هي الهند التاريخية، ثروة حضارية لا تعترض الوحدة المنتجة للقوّة والإنجاز والرخاء.

طبعاً، هو مشروع ابتدأ مكبّلاً بهذا التقسيم الذي أصاب الهند عام 1947. أي بدلاً من أن تكون جهود الهند الواحدة مندفعة باتجاه تحقيق هند الغد، استحالت الأحوال إلى هند مبتورة تستنزف مواردها لاحتواء بعضها الثمين المنشق عنها، وإلى پاكستان مستحدثة تجهد بدورها في منع الدولة التي خرجت من رحمها من الإساءة إليها. پاكستان هي من أساء إلى پاكستان ابتداءاً. اضطهاد الجناح الشرقي أتاح المجال بالفعل للهند، وسط تجاذب غذّته الحرب الباردة، إلى تقسيم المقسّم، فكانت بنغلادش.

حقّق حزب المؤتمر الهندي، ومعه قوى ذات ميول شتى، أقداراً من النجاح باتجاه تجسيد الهند الواحدة، العلمانية التقدمية الجامعة. لم يكن نجاحاً كاملاً. بل لم يكن نجاحاً كافياً. خسر المؤتمر الانتخابات مرة، وجاء حزب يدعو إلى الهوية الهندوسية للهند. هو حزب جاناتا، عام 1977. لم يتمكن من الإمساك بزمام الأمور، وعاد المؤتمر، وإن ببعض التعديل، إلى الحكم بعد ثلاثة أعوام.

على أنه لا يبدو أن المؤتمر، ومعه الهند العلمانية، قد استوعب معنى هذا التحذير الانتخابي. هو إبلاغ بالفشل، لفساد المؤتمر ومحسوبياته وضعضعته. هو كذلك اتهام بالقصور والتقصير في معالجة المواجهة الطائفية الإسلامية الهندوسية.

بل بدا لوهلة بأن معظم من لم يلتحق بپاكستان من المسلمين في الهند، بقي من حيث الهوية «مسلم في الهند»، ولم يتدرج إلى أن يصير «مسلماً هندياً» أو أن يحقق المبتغى العلماني بأن يصبح «هندياً مسلماً». في حالات عدّة، ربما في غالب الأحوال، المسلم هو الذي أصرّ على قطيعة تشريعية مع سائر أهل البلاد. وعلى تمايز اجتماعي. ولكن لا المؤتمر، والذي عوّل على أصواته الانتخابية، ولا غيره، نجح بتقديم السبيل إلى صيغة تجمع بالفعل، لا مجرد القول. في اتهام المسلم في الهند بأنه يريد العيش منفصلاً بعض الحق، وإن أريد به الكثير من الباطل. بالتأكيد، ليس المسلم في الهند وحيداً، ولا المسلم أولاً، من يتحمل مسؤولية هذا الانفصال الذي ازداد، وكان تبريراً باطلاً في أحوال عدة في الأمس القريب لعدوان متكرر لا تستجيب له الدولة بالقدر الكافي، ثم لاعتداء تغضّ السلطات النظر عنه بل تشارك في بعض أوجهه، وصولاً إلى ما يدفع إليه نارينردرا مودي اليوم من قباحة في التمييز الصريح بحقه في التشريعات وتطبيقاتها.

لم تبتدئ القباحة مع مودي. بل قبله بزهاء عقدين، جرى اقتحام المسجد البابري التاريخي وتدميره. وتمنعّت السلطة القضائية، للأسف خلافاً لأعرافها وسجلها المشهود في العدالة والنزاهة والاستقلالية، في إعادة الأمور إلى نصابها والحق إلى أصحابه، بل أبقت المسجد على دماره وأتاحت لمدمريه أن يبنوا معبداً في حرمه. ربما أن الهند العلمانية ماتت يومها، ولم يصل إلى العالم خبر وفاتها.

دون شك، الهند العلمانية فشلت في حل مسألتها الإسلامية. وإن هي تمكنت من تعمية ذاك الأمر الآخر، فإنها قد رسبت أيضاً في معالجة الفرز والتمييز على أساس الطبقات «المعنوية». التشريعات والقرارات الرسمية لم تنجح بتديل الواقع، ولا تولية «المنبوذين»، بعد أن بدّلت صفتهم إلى «أبناء الآلهة»، المناصب العليا الشكلية، بل بقيت الاعتداءات عليهم مستمرة وازدادت قبحاً. فيما الحركات الثورية الشيوعية، من وحي ماو تسي تونغ حتى بعد أن غاب نجمه في بلاده، بقية تبسط سيطرتها على أرياف عدة  على مدى شرق البلاد، من جنوبها إلى شمالها.

ثم جاء مودي عام 2014. سجله، موضع اعتزازه، هو أنه ردعهم وعاقبهم يوم كان حاكماً لولاية كجرات عام ٢٠٠٢. الـ «هم» هنا هم المسلمون، هذا الكم الجماعي الذي اتهم، دون اتضاح الدليل، بحرق قاطرة بركابها الهندوس، وعوقب بالتالي باعتداءات على مدى الولاية أودت بحياة زهاء الألفين منه.

هو إشعار جديد برحيل الهند العلمانية أن يصل الرجل إلى المنصب السياسي الأول في البلاد، وأن يتكرر فوزه رغم مجاهرته بفئويته، بل ربما لمجاهرته بها، واستفاضته باجتراح سبل التمييز ووضعها موضع التطبيق، من إمكانية تجريد العديد من المسلمين من جنسيتهم، إلى تجاوز الدستور بوضع ولاية كشمير تحت الحكم الاتحادي، وهي الولاية الوحيدة في الهند ذات الأغلبية الإسلامية، وصولاً إلى السعي لتبديل المناهج الدراسية وكتب التاريخ لاجتثاث الدور الإسلامي وإعادة تصويره على أنه استعمار يستوجب نبذ آثاره.

نعم، بكل أسف وأسى، الهند العلمانية قد ماتت. هند اليوم، هند مودي، هند الهندوتسڤا، هي مشروع اضطهاد. لا يقتصر الأمر على المسلمين، بل يشمل المسيحيين. أن يتزوج المسلم من هندوسية اليوم هو «جهاد نكاح» يريد المشرّعون الهندوسيون أن يعترضوا تحققه. وأن يعبر الهندي إلى المسيحية هو فعل إبادة للهندوسية يريد هؤلاء المشرّعون أنفسهم أن يواجهوه. هذه شذرات. ولكن أن تتكرر في الخطاب العام جرأة الدعوة إلى القتل والذبح والإبادة، ليس شأناً عرضياً.

كيف ترتقي الهند إلى المقام الذي تستحقه في الصدارة العالمية وهي منشغلة على معاقبة نفسها مجدداً. لو لم تنشق پاكستان عن الهند الواحدة، لربما كان النصف الثاني من القرن الماضي زمناً هندياً. هل يتكرر التساؤل بعد عقود، ليكون أنه لو لم تنشغل الهند بمحاربة نفسها، لكان النصف الثاني من القرن الحالي زمناً هندياً.

الهند الرائعة، الهند الثرية بالحضارة، الهند العلمانية، ليتها تعود. للأسف، لا يبدو بأنه لهذا التمني ما يبرّره.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.