جانب من مبنى الأزهر/وكالة الصحافة الفرنسية
جانب من مبنى الأزهر/وكالة الصحافة الفرنسية

في الوقت الذي تُعاني فيه مصر من أزمة اقتصادية ومعيشية غير مسبوقة دفعت بعشرات الملايين إلى ما دون خط الفقر، وفي حين انتشر التشدّد الديني في المجتمع وانعكس في ارتفاع عدد الجرائم وفي توسّع عمليات الإرهاب في سيناء، وجدت وزارة الأوقاف أن هذا هو الوقت المناسب لإعلان حربها الثانية على الإلحاد، بما يعني الاعتراف بأن حربها الأولى عام 2014 قد فشلت، ووصفت وزارة الأوقاف الإلحاد بأنه "ظاهرة موجّهة ومموّلة ومسيسة هدفها إحداث فوضى وإرباك في مصر وهذا يتطلّب من عقلاء الأمة والوطنيين الغيورين على دينهم أن يفطنوا لهذه المخططات الخبيثة المشبوهة التي لا تخدم سوى القوى الاستعمارية الطامعة في منطقتنا العربية وخيراتها ومقدراتها الاقتصادية والجغرافية".  

ورغم هذا التعليل الساذج والخشبي والمكرّر لظاهرة منتشرة في كل دول العالم، فقد شارك الرئيس السيسي في هذه الحرب وأصدر توجيهاته ببناء مساجد كُبرى في مختلف محافظات مصر وزيادة مكافآت المسابقة العالمية للقرآن الكريم، مما أثار موجة من الاستغراب لوجود أعداد كبيرة من المساجد في مصر يفوق أغلب الدول الإسلامية. فحسب تصريحات وزير الأوقاف في سبتمبر 2020 كان عدد المساجد في مصر 140 ألفاً بينها أكثر من مئة ألف من المساجد الجامعة الكبيرة، وفي نهاية عام 2022  صرّح وزير الأوقاف بأنه تمّ خلال عامين بناء 2712 مسجدا جديدا، بما جعل عدد المساجد التي بُنيت في عهد الرئيس السيسي 9600 مسجد بتكلفة تجاوزت عشرة مليارات جنيه، وإذا أضيف إليها الكلفة السنوية للخدمات ورواتب الموظفين ورجال الدين المشرفين على كل مسجد يتّضح حجم الإنفاق الكبير على منشآت ليس لها أي عائد اقتصادي ومن الصعب أن تُحدث أي فرق في "الحرب" على الإلحاد.   

وبما أن تجارب السنوات الأخيرة قد أكّدت ألا فائدة من مناقشة الأزهر والسلفيين المصريين وتذكيرهم بأيات لا تتماشى مع حربهم المزعومة على الإلحاد مثل "لا إكراه في الدين" البقرة 256، أو "من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، الكهف 29، فربّما يفيد تذكيرهم بأن إعلان "الحرب" على معتقدات فكرية يخالف الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي ينص "لكل إنسان الحق في حرية الفكر والوجدان والدين ويشمل هذا الحق حريته في تغيير دينه ومعتقده وحريته في إظهار دينه ومعتقده أمام الملأ أو بمفرده"، بما يضع مصر في موقع من يرفض الالتزام بالقوانين الدولية.  

وقد تدّعي الحكومة المصرية بأن ما تقصده "بالحرب" على الإلحاد هو مجرّد فتح حوار مع الملحدين وتقديم النصح لهم، ولكن ما يجري في مصر منذ سنوات يؤكّد عدم صحة هذا الإدعاء، فقد تعرّض كثير من المصريين للسجن لأسباب أقل من الإلحاد وبعضهم لمجرّد خروجهم عن التفسير السائد للنصوص الدينية.  

وكان من آخر الأمثلة اليوتيوبر الشهير هشام المصري الذي جرى اعتقاله بعد مناظرة قصيرة مع داعية أزهري لم تستمر سوى بضعة دقائق أنهاها الداعية بتوجيه شتائم شخصية لهشام وانسحابه من المناظرة، ليتم بعدها إحتجاز هشام لأسابيع في أحد الفروع الأمنية، ثم خرج من الاعتقال دون أن توجّه إليه أي تهمة رسمية ربما مقابل تعهّده بأن لا يقوم بأي تسجيل على اليوتيوب أو السوشيل ميديا مستقبلاً، بما يؤكّد على أن الحرب على الإلحاد التي أعلنتها الحكومة المصرية هي حرب حقيقية تقوم فيها بمعاقبة وسجن كل من يخالف طريقة تفكير شيوخ الأزهر ووزارة الأوقاف.  

ونتيجة انتشار هذه الممارسات القمعيّة، أشارت دراسة لمنتدى مركز بيو للحريات الدينية إلى وجود قيود شديدة على الحرية الدينية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ومن الدول الأكثر سكانا كانت إيران ومصر وإندونيسيا وباكستان من بين الدول الأسوأ عالمياً من ناحية الحرية الدينية، بينما كانت البرازيل واليابان وجنوب أفريقيا وبريطانيا والولايات المتحدة من بين أفضل الدول.  

ولن تقتصر حرب الحكومة المصرية على الإلحاد بل ستشمل كل طرق التفكير المختلفة عن تفكير المنظومة الإسلامية الرسمية، مثل اللاأدرية واللادينية وحتى الأفكار التجديدية في الدين الإسلامي نفسه، ولكن الحكومة تفضّل استخدام مُفردة الإلحاد لأنها تعتقد أن وقعها عند عامة الشعب غير محبّب، مع أن كل هذه المعتقدات منتشرة عالمياً، ففي الولايات المتحدة يعتبر 12 في المائة من السكان أنفسهم ملحدين أي لا يؤمنون بوجود إله و17 في المائة يعتبرون أنفسهم لا أدريين أي لا يؤمنون ولا يكفرون بوجود الإله، بينما هناك 37 في المائة من السكان لا دينيين وهذا يشمل المجموعتين السابقتين مع "الربوبيين" وهم الذين يرون أن الأديان صناعة بشرية رغم إيمانهم بوجود إله، ومن الضروري تذكير الحكومة المصرية بأن استطلاعا لمعهد غالوب الأميركي أظهر أن ثلاثة أرباع السويديين والتشيك لا دينيين مثلهم مثل أكثر من نصف البريطانيين والهولنديين واليابانيين والسويسريين وكثير من الدول الأخرى.  

ويُضاف إلى هؤلاء في البلدان الإسلامية مجموعة أخرى لا تُبالي بالدين ومحظوراته وعباداته دون أن تكفر به، لأنها ترى أنه لا يقدّم حلولاً لمشاكل الإنسان ولأنه يتدخّل بكل تفاصيل الحياة ويعترض على كل ما يُدخل الفرح والسعادة للنفس، ولأنه يجعل الإنسان أسيراً للماضي بدل التطلّع نحو المستقبل، وكثُر هؤلاء مؤخراً نتيجة التناقض بين أقوال كثير من رجال الدين المسلمين الذين يدعون للفضيلة بينما أفعالهم بعيدة عن الحد الأدنى من الأخلاق.  

وتُرجع بعض المؤسسات الدينية خروج الشباب من الإسلام إلى شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي التي فتحت أبواباً للمعرفة لم تكن مُتاحة من قبل، ورغم أن هذا صحيح إلى حدّ ما ولكن السبب الحقيقي لهذا الخروج هو عجز رجال الدين المسلمين عن تقديم إجابات مُقنعة للشباب عن تساؤلاتهم المشروعة، كما أن إرجاع الخروج من الدين إلى قوى استعمارية يعني ضمناً تحميل الثقافة الغربية مسؤولية هذا الخروج مع أن الهروب من الدين الإسلامي خلال العقود الأخيرة لم يكن بتأثير كتب علماء وفلاسفة الغرب مثل ماركس وفرويد وداروين كما كان الحال قبل قرن من الآن، بل كان نتيجة كتب التراث الإسلامي مثل البخاري وابن تيمية وما احتوته من أفكار لم يعد يقبلها العقل والعلم، ومع ذلك لم تقم المراكز الإسلامية بأي جهد لإعادة قراءة هذه الكتب بما يتلاءم مع العصر.  

ولن يكون مصير الحرب الحالية على الإلحاد أفضل من سابقتها لأن الفكر الحديث يشكّك في فعّالية القمع في معالجة الخروج من الدين، فقد قال الفيلسوف الأسكتلندي آدم سميث: من مصلحة المجتمع والحكومة على المدى الطويل السماح للناس باختيار دينهم ومعتقداتهم بحُرية لأن ذلك يُساعد في تخفيف التعصّب وفي إيجاد جو من المنافسة يكون الجميع مضطراً فيه إلى تعديل تعليماته الدينية الصارمة والمُثيرة للجدل حتى يبدو أكثر جاذبية بهدف كسب مُعتنقين جدد، بينما القوانين التي تمنع الحرية الدينية وتسعى للإيمان بدين واحد تُفسد الدين على المدى البعيد ولا ينتج عنها سوى تحجّر هذا الدين وانتشار التعصّب بين أتباعه، ولذلك لا يوجد في قوانين الدول المتحضّرة وحتى في القانون المصري نفسه مادة تُجرّم الإلحاد مما دفع الحكومة المصرية لاستخدام قانون إزدراء الأديان الذي جعلته سيفاً مسلّطاً على كل من يخرج عن الفكر الديني السائد.  

وهناك ملاحظة أخيرة وهي أنه ليس من قبيل الصدفة أن يتم الإعلان عن الحرب على الإلحاد في ذكرى ثورة 25 يناير، لأن الأزهر والأوقاف وبقية أجهزة الدولة المصرية يروّجون إلى أن "الإلحاد" قد انتشر في المجتمع المصري بعد هذه الثورة لأنها فتحت الباب أمام حرية التفكير والتعبير والتي اعتبرها الطرفان خطراً مشتركاً عليهما، بما يؤكّد على تحالف الاستبداد السياسي مع التشدّد الديني الذي حوّل مصر إلى بلد يتعرّض لانتقادات متواصلة من منظمات حقوق الإنسان الدولية نتيجة انعدام الحريات السياسية والثقافية والدينية. 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.