علينا نحن أبناء هذا المشرق البائس أن نتعايش مع الحرب الصامتة التي تخوضها إسرائيل على جبهات الممانعة الثلاث، أي سوريا والعراق وإيران، وأن نشيح بوجوهنا عن المذلة التي تلحقها إسرائيل بالأنظمة الثلاثة، ذاك أنها، أي المذلة شرط ضمني لكي تواصل هذه الأنظمة حكمنا بالحديد والنار! ففي يوم واحد، أغارت طائرات مسيرة إسرائيلية على مصنع للأسلحة في مدينة أصفهان الإيرانية، فيما كانت طائرات حربية، إسرائيلية أيضاً تغير على مواقع قالت إنها للحرس الثوري على الحدود السورية العراقية، واستهدفت طائرات أخرى مواقع داخل سوريا، من المرجح أن تكون لميليشيات تابعة لإيران.
لولا أن هذه الوقائع موثقة، لكنا قلنا إننا حيال "Fiction" ركيك، موازٍ لتلك المشاهد الهزيلة وغير المقنعة التي أتحفتنا بها "نتفلكس" في الحلقات الأخيرة من مسلسل "فوضى" الإسرائيلي! فهل يصح أن تستسلم عواصم الممانعة الثلاث للغارات الإسرائيلية؟ هل هي "الاستعانة على قضاء الحاجة بالصمت"؟ وأي حاجة يلبيها هذا الصمت؟
الحاجة الوحيدة التي يليها هذا الصمت هي التفرغ الكامل لقمع المجتمعات ومنعها من التفكير. الصمت كاشف لصغاره هذه الأنظمة حيال ما جعلت تضخه من هراء تسوقه لقمع مجتمعاتها.
نعم فداحة المشهد المتكرر تضعنا مرة أخرى وجها لوجه أمام خواء خطاب الممانعة! ذاك أن الصفاقة بلغت مستويات غير مسبوقة، وكشفت عن المضمون المذهبي لهذا الخطاب. فإسرائيل ستواصل القصف، وسيواصل خطاب "الرد في المكان والزمان المناسبين" اشتغاله، والأسلحة المتجهة من إيران إلى سوريا سيصل منها ما يفيد النظام في سوريا في مهمته المتمثلة بقتل السوريين، أما ما تشعر إسرائيل بأنه خطر عليها من هذه الأسلحة، فستقصفه.
لكن يجب أن نتعايش مع انحطاط هذا الخطاب وأن نتجاوزه لنتوقع ما بعده، فبنيامين نتانياهو أطلق مؤخراً عبارة "السلام العملي مع الفلسطينيين"، بدل عبارة "السلام العادل" التي قام على أساسها اتفاق أوسلو، وهو بذلك أطلق رصاصة الرحمة على احتمال السلام العادل، لكن يمكننا أيضاً أن نسحب التعبير على حربه على جبهات الممانعة الثلاث، ونطلق عليها عبارة "الحرب العملية مع إيران ومع النظام السوري" ذاك أن هذه الحرب تتولى تصريف حاجات إسرائيل الأمنية من دون أن تشكل خطراً على الأنظمة التي تستهدفها. إيران تواصل نقل الأسلحة إلى سوريا عبر العراق، وإسرائيل تواصل قصفها، من دون أن تخل هذه الحرب الصامتة بال "ستاتيكو" القائم.
لكن "حاجات إسرائيل الأمنية" في تزايد في ظل حكومة أقصى اليمين، وهو ما يفسر توسيع دائرة الاستهداف الذي شهدنا فصلاً منه هذا الأسبوع. وعلى ضفاف هذا التوسيع شهدنا أيضاً وقائع تشي بأن ال "ستاتيكو" اخترق من دون أن يستهدف إسرائيل مباشرة. فإيران اتهمت فصائل كردية في العراق بالضلوع بالهجوم على أصفهان لمصلحة "دولة عدوة"، فيما شهدت الحدود السورية الإسرائيلية أول محاولة لتهريب المخدرات من سوريا إلى إسرائيل بحسب وسائل إعلام إسرائيلية. الحدثان لا يكفيان للقول إن معادلة القصف الصامت ستتغير، لكنهما يؤشران إلى أننا حيال رمال متحركة لا يكفي أن ترغب الأطراف بعدم هزها حتى لا تهتز. التقية الممارسة حيال هوية المعتدي تقابلها حاجة لضرب بيد من حديد حيال كل من تسوله نفسه أن يوظف هذا القصف لإضعاف الأنظمة. كل ضربة إسرائيلية في سوريا، تضاعف من حاجة النظام للقمع في الداخل!
الاهتزاز إذاً سيشتغل على الضفاف غير الإسرائيلية من الجبهات. فإيران ستنتقم من الأكراد، على نحو ما ينتقم حزب الله ونظام البعث من السوريين، وربما وجدت حكومة الحشد في العراق خاصرة غير شيعية لكي تتولى فيها الرد على الغارات الإسرائيلية، من نوع قصف المنطقة الخضراء في بغداد. وفي هذا الوقت سيتولى خطاب التخوين التصدي لأي محاولة احتجاج على ما يجري.
الضربات الإسرائيلية، في حدودها الراهنة، لا تهدد الأنظمة في البلاد الثلاثة، وهذا هو الأهم، والحديث عن السيادة المنتهكة والخسائر والقتلى، يبقى في حدود ما تحتمله هذه الأنظمة، وهو ما لا تُسأل عنه، في غياب رأي عام تولت خنقه منذ سنوات طويلة.
لكن لنشاطيه العسكرية والأمنية الزائدة التي افتتح به نتانياهو وكابينته الحكومية عهدهما الجديد قد تجنح نحو مزيد من التوغل في خيار الضربات، لا سيما في ظل انسداد أفق المفاوضات النووية بين واشنطن وطهران، ويأتي في هذا السياق ما أشارت إليه صحيفة "هآرتس" لجهة أن اختراق المسيرات الإسرائيلية أجواء عدد من الدول قبل وصولها إلى أصفهان ما كان ليحصل لولا تنسيق أمني مع قوة إقليمية أو دولية من المرجح أن تكون واشنطن.
سبق للحرس الثوري الإيراني أن قصف أربيل لكي يوصل رسالة لواشنطن، وبالأمس ظهر في طهران من يقول إن قصف أصفهان جرى بمساعدة من جهة كردية في شمال العراق، فهل هذه الإشارة تمهيد لرسالة ثانية؟