من الهجوم الذي استهدف شهر يناير مجمعا لوزارة الدفاع الإيرانية بأصفهان
من الهجوم الذي استهدف شهر يناير مجمعا لوزارة الدفاع الإيرانية بأصفهان

علينا نحن أبناء هذا المشرق البائس أن نتعايش مع الحرب الصامتة التي تخوضها إسرائيل على جبهات الممانعة الثلاث، أي سوريا والعراق وإيران، وأن نشيح بوجوهنا عن المذلة التي تلحقها إسرائيل بالأنظمة الثلاثة، ذاك أنها، أي المذلة شرط ضمني لكي تواصل هذه الأنظمة حكمنا بالحديد والنار! ففي يوم واحد، أغارت طائرات مسيرة إسرائيلية على مصنع للأسلحة في مدينة أصفهان الإيرانية، فيما كانت طائرات حربية، إسرائيلية أيضاً تغير على مواقع قالت إنها للحرس الثوري على الحدود السورية العراقية، واستهدفت طائرات أخرى مواقع داخل سوريا، من المرجح أن تكون لميليشيات تابعة لإيران.

لولا أن هذه الوقائع موثقة، لكنا قلنا إننا حيال "Fiction" ركيك، موازٍ لتلك المشاهد الهزيلة وغير المقنعة التي أتحفتنا بها "نتفلكس" في الحلقات الأخيرة من مسلسل "فوضى" الإسرائيلي! فهل يصح أن تستسلم عواصم الممانعة الثلاث للغارات الإسرائيلية؟ هل هي "الاستعانة على قضاء الحاجة بالصمت"؟ وأي حاجة يلبيها هذا الصمت؟  

الحاجة الوحيدة التي يليها هذا الصمت هي التفرغ الكامل لقمع المجتمعات ومنعها من التفكير. الصمت كاشف لصغاره هذه الأنظمة حيال ما جعلت تضخه من هراء تسوقه لقمع مجتمعاتها.

نعم فداحة المشهد المتكرر تضعنا مرة أخرى وجها لوجه أمام خواء خطاب الممانعة! ذاك أن الصفاقة بلغت مستويات غير مسبوقة، وكشفت عن المضمون المذهبي لهذا الخطاب. فإسرائيل ستواصل القصف، وسيواصل خطاب "الرد في المكان والزمان المناسبين" اشتغاله، والأسلحة المتجهة من إيران إلى سوريا سيصل منها ما يفيد النظام في سوريا في مهمته المتمثلة بقتل السوريين، أما ما تشعر إسرائيل بأنه خطر عليها من هذه الأسلحة، فستقصفه.  

لكن يجب أن نتعايش مع انحطاط هذا الخطاب وأن نتجاوزه لنتوقع ما بعده، فبنيامين نتانياهو أطلق مؤخراً عبارة "السلام العملي مع الفلسطينيين"، بدل عبارة "السلام العادل" التي قام على أساسها اتفاق أوسلو، وهو بذلك أطلق رصاصة الرحمة على احتمال السلام العادل، لكن يمكننا أيضاً أن نسحب التعبير على حربه على جبهات الممانعة الثلاث، ونطلق عليها عبارة "الحرب العملية مع إيران ومع النظام السوري" ذاك أن هذه الحرب تتولى تصريف حاجات إسرائيل الأمنية من دون أن تشكل خطراً على الأنظمة التي تستهدفها. إيران تواصل نقل الأسلحة إلى سوريا عبر العراق، وإسرائيل تواصل قصفها، من دون أن تخل هذه الحرب الصامتة بال "ستاتيكو" القائم.

لكن "حاجات إسرائيل الأمنية" في تزايد في ظل حكومة أقصى اليمين، وهو ما يفسر توسيع دائرة الاستهداف الذي شهدنا فصلاً منه هذا الأسبوع. وعلى ضفاف هذا التوسيع شهدنا أيضاً وقائع تشي بأن ال "ستاتيكو" اخترق من دون أن يستهدف إسرائيل مباشرة. فإيران اتهمت فصائل كردية في العراق بالضلوع بالهجوم على أصفهان لمصلحة "دولة عدوة"، فيما شهدت الحدود السورية الإسرائيلية أول محاولة لتهريب المخدرات من سوريا إلى إسرائيل بحسب وسائل إعلام إسرائيلية. الحدثان لا يكفيان للقول إن معادلة القصف الصامت ستتغير، لكنهما يؤشران إلى أننا حيال رمال متحركة لا يكفي أن ترغب الأطراف بعدم هزها حتى لا تهتز. التقية الممارسة حيال هوية المعتدي تقابلها حاجة لضرب بيد من حديد حيال كل من تسوله نفسه أن يوظف هذا القصف لإضعاف الأنظمة. كل ضربة إسرائيلية في سوريا، تضاعف من حاجة النظام للقمع في الداخل!  

الاهتزاز إذاً سيشتغل على الضفاف غير الإسرائيلية من الجبهات. فإيران ستنتقم من الأكراد، على نحو ما ينتقم حزب الله ونظام البعث من السوريين، وربما وجدت حكومة الحشد في العراق خاصرة غير شيعية لكي تتولى فيها الرد على الغارات الإسرائيلية، من نوع قصف المنطقة الخضراء في بغداد. وفي هذا الوقت سيتولى خطاب التخوين التصدي لأي محاولة احتجاج على ما يجري.  

الضربات الإسرائيلية، في حدودها الراهنة، لا تهدد الأنظمة في البلاد الثلاثة، وهذا هو الأهم، والحديث عن السيادة المنتهكة والخسائر والقتلى، يبقى في حدود ما تحتمله هذه الأنظمة، وهو ما لا تُسأل عنه، في غياب رأي عام تولت خنقه منذ سنوات طويلة.

لكن لنشاطيه العسكرية والأمنية الزائدة التي افتتح به نتانياهو وكابينته الحكومية عهدهما الجديد قد تجنح نحو مزيد من التوغل في خيار الضربات، لا سيما في ظل انسداد أفق المفاوضات النووية بين واشنطن وطهران، ويأتي في هذا السياق ما أشارت إليه صحيفة "هآرتس" لجهة أن اختراق المسيرات الإسرائيلية أجواء عدد من الدول قبل وصولها إلى أصفهان ما كان ليحصل لولا تنسيق أمني مع قوة إقليمية أو دولية من المرجح أن تكون واشنطن.

سبق للحرس الثوري الإيراني أن قصف أربيل لكي يوصل رسالة لواشنطن، وبالأمس ظهر في طهران من يقول إن قصف أصفهان جرى بمساعدة من جهة كردية في شمال العراق، فهل هذه الإشارة تمهيد لرسالة ثانية؟

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.