"تقدمت السينما مؤخرا بتأثيرها النافذ والخاص ضمن الفيلم الذي حمل اسم أمستردامِ"
"تقدمت السينما مؤخرا بتأثيرها النافذ والخاص ضمن الفيلم الذي حمل اسم أمستردامِ"

عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، وسقوط أنظمة النازية والفاشية الديكتاتورية في ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا، برزت أغلبية من الدول في العالم التي استفادت جذريا من دروس الحرب وتجاربها المريرة وحسمت الجدل إلى الأبد لصالح الديمقراطية كأفضل أشكال الحكم للإنسانية.

عدوى الديمقراطية الإيجابية هذه التي أصابت غالبية الدول التي خاضت الحرب وبعض دول العالم، ظلت منيعة على دول أخرى رغم انخراط بعضها في تلك الحرب، ولم تتمكن من اختراق أنظمة حكمها أو تغييره، واستمرت حتى اليوم ترزح تحت أشكال من الديكتاتوريات المستترة أو غير المستترة، عسكرية، أو دينية، أو ملكية، أو دول المافيا، أو غيرها، مثل الاتحاد السوفيتي سابقا (الاتحاد الروسي اليوم) والصين، وكوريا الشمالية، وإيران، وعدد من دول العالم.

ولكن ما الذي حال دون تحول الولايات المتحدة الأميركية نحو الديكتاتورية آنذاك رغم أن المناخ السياسي العالمي كان مشبع بها أو حتى في الأوقات التي تلتها؟

سؤال جوهري يطرحه الأميركيون ويناقشونه كل حين بصيغ تتخذ تعابير مختلفة، لغرض وحيد يرتبط بالإجابة عليه، وهو استمرار الحرص وحراسة وجودهم المؤسس على الديمقراطية وحمايتها القصوى. وبوصفه سؤال ملحّ عاد وبرز للواجهة منذ نحو ثلاث سنوات بعد تصاعد سخونة الأحداث المتعلقة بجوهره، أي مع الممارسات التي رافقت ولاية الرئيس السابق دونالد ترامب وسلوكياته التي صنفها المراقبون السياسيون بأنها تشي بميول "ديكتاتورية" ومن ثم ما تلاها من اقتحام مبنى الكابيتول والتهديدات المباشرة للمؤسسات الأميركية الديمقراطية العريقة. 

حول هذا السياق تحديدا، تقدمت السينما مؤخرا بتأثيرها النافذ والخاص لتعيد من وجهة نظرها هذا السؤال والاجابة عليه، ضمن الفيلم الهام الذي حمل اسم (أمستردامِ) الصادر في شهر أكتوبر الفائت لمخرجه ديفيد راسل وبطولة جماعية للنجوم روبرت دي نيرو وكريستيان بل وجون ديفيد واشنطن ومارغوت روبي ورامي مالك. وهو فيلم يقتبس عن قصة حقيقية حدثت قبل نحو قرن من الزمن، إبان حكم الرئيس فرانكلين روزفلت، ويعيد صياغتها ودمجها بنسيج درامي تشويقي يتمحور حول الحب والصداقة والشرف المهني في مواجهة الفساد المالي والحكومي والتهديد الخطير الذي تعرضت له الديمقراطية الأميركية بشكل مباشر في الفترة مابين الحربين العالميتين والتي ترافقت بالكساد العظيم والأزمات الاقتصادية العالمية الحادة وصعود النازية والفاشية في أوروبا.

يصنف الرئيس فرانكلين روزفلت في التاريخ السياسي الأميركي بوصفه أحد أعظم ثلاث رؤساء حكموا الولايات المتحدة الأميركية، تسلم الحكم سنة 1930 وسط مناخ سياسي عالمي متشنج وظروف اقتصادية صعبة، وفي فترة ولايته الثانية دخلت أميركا الحرب العالمية الثانية. اشتهر بسياساته وتوجهاته الإصلاحية التقدمية كمصلح ليبرالي اقتصادي واجتماعي ومناصرته للنقابات العمالية ورعاية المدنيين، واشتهر أيضاً بإطلاقه للحريات الأربع التي أعلن عنها سنة 1941 واندمجت في ميثاق الأطلنطي، وهي حرية التعبير والعبادة والتحرر من الخوف والتحرر من الحاجة
.
كل ما تقدم من هذه التوجهات والإصلاحات، أثار سخطا ضده من النافذين في عالم المال والصناعيين الكبار وبعض الفاسدين من رجال الحكم والجيش، فحاربوا برامجه واتهموه أنه "شيوعي". وتحت التأثير العابر للحدود للدعايتين النازية والفاشية، خططوا لمصالحهم الاقتصادية والمالية الكبرى المتمثلة بمعامل للكيماويات والصناعات الثقيلة في أوروبا، والتي ستخدم في نهاية المطاف نظامي برلين وإيطاليا وتحضيرهما للحرب العالمية الثانية القادمة بعد سنوات قليلة. ووفقا لهذه المصالح، رسمت خطة الانقلاب ضد روزفلت للإطاحة به وتسليم السلطة لحكومة فاشية يرأسها الجنرال سميدلي بتلر، الذي جرب الانقلابيون استمالته وتقديم الرشى له لترئيسه ديكتاتورا للحكومة الأميركية الفاشية البديلة.

"نحن بحاجة إلى حكومة فاشية في هذا البلد لإنقاذ الأمة من الشيوعيين الذين يريدون تمزيقها وتدمير كل ما قمنا به". كان هذا كلام ماكجواير أحد أبرز المخططين للانقلاب، حيث تمثلت الخطة وفقاً للمصادر التاريخية، وأيضا بتقاطعها معلوماتيا مع ماورد في الفيلم عبر المشهد الوثائقي لشهادة الجنرال سميدلي بتلر التي أدلى بها أمام لجنة من الكونغرس عقب خداعه للانقلابيين وإحباطه لمخططهم حول: "محاولة تأسيس فاشية ديكتاتورية عبر تشكيل منظمة من المحاربين القدامى لاستخدامها كحيلة أو كنادٍ على الأقل لإخافة الحكومة وتحطيم مؤسساتنا الديمقراطية".

سميدلي بتلر، الجنرال الملقب "بصاحب العين الثاقبة الكبيرة"، كان أحد أكثر ضباط البحرية شهرة في التاريخ ومحبوبا من قبل الجيش ومحترما بشدة من قبل عامة الناس. سيلعب دوره في الفيلم روبرت دي نيرو ببراعة واقتدار غير غريبين عن مقدرة وفهم النجم العالمي للشخصية، سيما وأنها شخصية تمس وترا وطنيا تاريخيا وحساسا يتعلق بشرف الأمة والجيش ومناهضة الديكتاتوريات، رغم أن النهاية كانت محبطة بتقويض النتائج ومصداقية بتلر وحجب أسماء المتمردين أو مساءلتهم أو ملاحقتهم. والتبرير الذي تسوقه المصادر التاريخية "بأنه كان من شان إطلاق أسماء المتمردين من المسؤولين الحكوميين والمعنيين، أن يقوض سلطة روزفلت ويجعله يبدو كزعيم ضعيف، وأن روزفلت بذاته هو من اقترح حجب الأسماء وعدم ملاحقتهم شريطة أن يوافق المتآمرون على التوقف عن التحدث علناً ضد برامجه الاجتماعية والاغاثية".

المزج المتقن بين بعض الأحداث التاريخية الحقيقية وبين الكثير من البناء الدرامي المساند الذي قدمه فيلم(أمستردام)، لم يهدف إلى التوقف عند التفاصيل الدقيقة لحكاية محاولة الانقلاب، بل سعى عبر قصة وصداقة عميقة تبتدئ في أمستردام إلى إيصال تأثير تلك الحكاية المديد المتعلق بكيفية نجاة الولايات المتحدة من تلك المحاولة لجرها نحو الديكتاتورية، بسبب تصدي بعض رجال الدولة الشرفاء لها، وبسبب الحب الذي يمكن أن يجمع بين أفراد مختلفين عرقياً وجنسياً، لديهم حس المواطنة والحرص على صيانة وطنهم. وأيضاً بسبب المناعة الأميركية القائمة على ما يعرف بامتلاكها "لمضادات الديكتاتورية"، والمتمثلة في أبرز نقاطها بالدستور المحكم والشامل للدولة.

الجدير بالذكر في السياق، أن الرئيس روزفلت فاز بأربع رئاسات متتالية حتى وفاته عام 1945، وهو ما دفع مجلس الشيوخ بعد ستة أعوام لإقرار التعديل22 من الدستور، والذي حدد عدد المرات التي يكون فيها الفرد مؤهلاً للانتخاب لمنصب رئيس الولايات المتحدة، خشية من أن تفتح شهية الرئيس الذي يتولى منصبه لفترة طويلة ويتحول ليصبح ديكتاتورا.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.