"في أزمة الدولار التي هي أولى الأزمات التي رافقت عمل حكومته، ظهرت الحكومةُ بمظهر العاجز"
"في أزمة الدولار التي هي أولى الأزمات التي رافقت عمل حكومته، ظهرت الحكومةُ بمظهر العاجز"

في أوّل لقاء تلفزيوني مع قناة عراقيّة منذ تولّيه منصب رئيس مجلس الوزراء، وبعد اقتراب الـ100 يوم على تشكيل الحكومة، ظَهَرَ محمد شياع السوداني بابتسامةِ الواثق مِن حديثه، مُعلّقاً على أزمةِ ارتفاع سعر صرف الدولار الأميركي، بِطمأنةِ المواطن ونصيحته بـ"عَدَمِ اقتناء الدولار، فالدينار العراقيّ هو الأقوى"! لكن في اليوم التالي ارتفع سعرُ صرف الدولار إلى أعلى مستوياته منذ شهرٍ على بدء أزمة ارتفاعه وعجز الحكومة عن السيطرة عليه. 

قد تبدو هذا الملاحظة هامشيّة، ولا يجب أن تكون معياراً لِتقييم حكومة السوداني بعد 100 يوم. لكنَّ قراءاتها مِن زاوية قدرة رئيس الوزراء على طمأنة الشارع في ظلّ أزمةٍ تعصف باقتصاد الطبقات الفقيرة ومتوسطة الدخل، تحتاج إلى قراءة مخرجاتها، وعدّها مدخلاً لتقييم ثقة المواطن بالحكومة الجديدة، وقدرتها على فرض سيطرتها على التحديات التي تعصف بها، وقدرتها على إدارة الأزمات في بلدٍ تخضع فيه جميع التفاصيل اليومية لِسيطرة قوى وجماعات موازية لِلدولة.

في البرنامج الوزاريّ لحكومة السوداني الذي تمّ التصويت عليه مِن قبل البرلمان في 27-10-2022، تضمّن تحديدات زمنيّة ما بين شهر واحد وثلاثة أشهر لتقديم تشريعات وإجراءات إداريّة تعالج ملفّات مهمّة في عمل الحكومة. مِن بين الإجراءات التي حدد السقف الزمني للانتهاء منها بشهر واحد، حسم ملفّات المشمولين بالمسائلة والعدالة، وتخصيص وصرف مستحقات المشمولين بقرارات اللجنة العليا لتنفيذ المادّة 140. أمّا التشريعات والإجراءات التي يجب تنفيذها خلال ثلاثة أشهر، ألزمت الحكومةَ "بتقييم أداء المحافظين بالوكالة واتخاذ الإجراءات القانونية والإدارية بحق المقصّرين"، و"تعديل قانون الانتخابات النيابية"، و"التزام الحكومة ببناء أدوات فاعلة لمحاربة الفساد خلال مدّة أقصاها 90 يوماً من تاريخ تشكيل الحكومة". وبعد مضيّ 100 يوم مِن عمر الحكومة يبدو أنَّ تلك الملفات لم تُحسَم بعد، لا بالثلاثين يوماً التي تم تحديدها، ولا بثلاثة أشهر من عمر الحكومة!

تقييم عمل الحكومة في 100 يوم من عمرها، هو نوع من السياقات التي أنتجتها الخطابات الشعبوية وانعدام الخبرة في إدارة الدولة، والتي انساقت خلفها حكومة السوداني، لأنَّ بلداً مثل العراق الذي تراكمت فيه الفوضى والخراب لا يمكن أنْ تحدد أيّ حكومة ملامحَ خريطة طريقها في ثلاثة أشهر. وعندما تكون الوعود بتوقيتات زمنية لا تُحسب حساب المتغيّرات والتحديات فهو نوع جديد من أنواع العَبَثية السياسية، ودليل على غياب بُعد النظر السياسي، وانعدام رؤية رجال الدولة.

منذ اليوم الأول من تشكيلها، بدأت حكومةُ السوداني بأنّها حكومة ترضيات لِلقوى التي شكّلتها، أكثر مِن كونها حكومة إدارة مرحلة عصيّة وحرجة، فبعض الوزراء لا علاقة لهم بمؤسسات الدولة ولا خبرة لهم في المجالات التي تصدّوا لإدارتها. وكان خضوع السوداني لإرادة تلك الكتل التي فرضت وزرائها، أولى مؤشرات ضعف الثقة؛ كونها لم تغيّر نمطَ تشكيل الحكومات والخضوع لأحزاب السلطة التي تتعامل مع الوزارات كدكاكين لها وليس مؤسسات دولة!

وخلال الـ100 يوم، يبدو أنَّ السيّد السوداني، لم يتّعظ مِن سابقه السيّد عادل عبد المهدي الذي استغرق في التنظير حول الاستراتيجيات والمشاريع الاستراتيجية والاتفاقيات مع دول كبرى. بدلاً من أن تكون الأولَوية ترتيب الأوضاع الداخليّة وتهيئة البيئة القادرة على النهوض بمشاريع تلك الاستراتيجيات والحديث عن تطبيق تلك الاتفاقيات! وكذلك السودانيّ لم ينجح لحدّ الآن في تشكيل فريق حكومي يدير الملفات الخطيرة والحرجة مِن خارج دائرة أحزاب السلطة وحاشيتها، وبعيداً عن لوثة البيروقراطية المعطّلة وغير المنتجة، وبنفس الوقت يتحدّث عن أفق جديد لإدارة الحكومة وتوثيق علاقتها مع المواطن! 

وفي أزمة الدولار التي هي أولى الأزمات التي رافقت عمل حكومته، ظهرت الحكومةُ بمظهر العاجز عن اتخاذ التدابير والخطوات القادرة على كسب ثقة المواطن، وبدأ الحديثُ عن مؤامرة أميركية تستهدف حكومةَ السوداني وتريد إفشالها مِن قبل جوق المطبلين لِلحكومة! في حين كانت جميع الإجراءات الحكوميّة غير فاعلة ولا مؤثرة في السيطرة على الأسواق الموازية التي تخضع لمافيات ترتبط بشراكات عميقة من القوى السلطويّة. وأغلب إجراءات الحكومة كانت مجرّد تصريحات ووعود، هدفها كسب الوقت؛ لأنَّ الرهان الأكبر كان على عَقد اتفاق مع البنك الاحتياطيّ الفيدراليّ الأميركي لمنح البنك المركزيّ بعض الاستثناءات.

لا يمكن لأيّ حكومة تطلق الوعود بأريحية وهي تصارع تيارات متناقضة، وتخضع لابتزاز سياسي من قبل القوى الرئيسة المشاركة فيها التي تسعى لِتوسيع نهبها وسلبها لموارد الدولة وخزينتها، وفرض نفوذها على مؤسسات الدولة. وتقف خلف أسوارها قوى تتربّص إخفاقها حتّى تبرئ ساحتَها وتبيّض صفحتها من التورط بالتأسيس لمنظومة الخراب والفشل التي كانت مشاركة لها في جميع الحكومات السابقة. وأيضاً تدخلات خارجية تريد استنزاف مواردها والإبقاء على وصفة الخراب الذي أسست بنيانَه بمساعدة أذرعها وعملائها.

إنَّ الثلاثة الأشهر الماضية هي مجرّد اختبار لحجم التحديات التي يمكن أن تواجهها حكومةُ السودانيّ مستقبلاً، لا سيما أنّها كبلت نفسَها بوعود إصلاحية أكبر بكثير مِن قدرتها وإمكانياتها، كالحديث عن تقديم ورقة إصلاحية اقتصادية شاملة، وتصحيح العلاقة بين الحكومة الاتحادية والإقليم. وتشريع قانون مجلس الاتحاد، وقانون المحكمة الاتحادية، وحسم قانون النفط والغاز، وإجراء انتخابات مجالس المحافظات. ويبقى الالتزام الأخطر هو إجراء انتخابات مبكّرة خلال عام!

على الرغم من التحديات، تحتاج حكومةُ السودانيُّ إلى الاستفادة من جميع فرص الانفتاح الإقليمي والدولي على العراق، والواردات الماليّة التي يوفّرها استقرار أسعار النفط. واستثمارها لتحقيق شرعية المنجَز الذي افتقدته جميع الحكومات السابقة. وتحتاج إلى إقناع المواطن بخطواتها بدلاً من الشعارات التي لا تجد مصداقيتها في تفاصيل حياته اليومية. وعلى السودانيّ أن يفكّر بطريقة أكثر احترافية في ترضية الشارع وكسب ثقته، وأن لا يبقى منشغلاً بسياسات الترضية لقوى السلطة وحاشيتها.

ختاماً، أجدُ في نصائح نيقولو مكيافيللي، خير نصيحة لحكومة السوداني بعد مضي 100 يوم على تشكيلها، إذ يقول في كتابه الأمير:

"إذا أظهر الأميرُ أنّه يسعى إلى الانتصار والحفاظ على الدولة، فإنَّ كلّ الوسائل التي يستعملها ستحظى باحترام الجميع وتقدريهم؛ لأنَّ عامّةَ النّاس لا تُعنى، عادةً، إلا بظواهر الأمور وخواتيمها...ويكون الأميرُ عُرضةً لِلاحتقار إذا بدا لِلغيرِ أنَّه متقلّبٌ أو طائشٌ أو ضعيف العزم أو جبان أو متردد. فعليه أن يحترس مِن هذه النعوت المعيقة، وأن يثابرَ على وَصمِ أعمالِه بميسَمِ العظمةِ ورباطة الجأش والرصانة والحزم. وفيما يتعلّق بشؤون الرعايا الخاصّة، فيجب أن تكون أحكامُه فيها حاسمةً وقرارته باتةً حتّى يقطع الطريقَ على كلّ مَن يروم خداعه أو الإيقاع به".

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.