مشهد عام من طهران. أرشيف
مشهد عام من طهران. أرشيف

النظام الإيراني نظام ثيوقراطي استعماري هرمي، أرسته سلطة رجال دين قسمت الإيرانيين إلى فئات متراتبة. يأتي في مقدمتها رجال الدين الشيعة المؤمنون بولاية الفقيه كما ابتدعها الخميني. على غرار الأنظمة الفاشية بنوا نظاماً أمنياً ضم فئة مكونة من أجهزة أمنية متعددة تضم الملايين، في مقدمها الحرس الثوري وفيلق القدس والباسيج وغيرها من التنظيمات. في هذا النظام يتقدم الرجال على النساء والقومية الفارسية على القوميات المتعددة الأخرى والمذهب الشيعي على المذاهب الأخرى وهكذا.

يستمر النظام الإيراني بقيادة الحروب متعددة الأوجه والاتجاهات. جرّب الحرب المباشرة والحروب بالوكالة. حروب تمددت من العراق، إلى أميركا وإسرائيل والسعودية وسوريا وصلت الآن أوكرانيا. يقوم بعمليات إرهابية في عشرات البلدان. يواظب على اختطاف واحتجاز مئات الرهائن. غزا بلدان بواسطة جماعات مسلحة أنشأها لخدمته، دخلت في صراعات على السلطة من لبنان وصولاً إلى باكستان. قطع علاقاته الدبلوماسية مع 40 بلداً والحبل على الجرار. هناك أكثر من 8 ملايين إيراني يتوزعون على 50 بلداً.

لم تمنع العقوبات إيران من تسيير أمورها، بتغاضي من الدول الغربية، إلى أن اندلعت الانتفاضات المستمرة منذ 4 أشهر، وأدخلت نفسها في أتون الحرب على أوكرانيا. والآن افتتحت نزاعاً مع أذربيجان.

فكيف استطاعت إيران أن تهيمن على شعبها طوال هذه الفترة، بالرغم من خصوصية تكونها من فسيفساء إثنية، وموزاييك من عدة قوميات أهمها الفرس والترك والكرد والعرب والتركمان واللور والجيلان.

تحركت هذه المكونات لتطبيق الدستور لجهة اللامركزية، بعد سقوط الشاه رضا بهلوي من قبل الحلفاء في 1941 وضعف الحكومة المركزية في طهران. فشل الحراك الأحوازي بسبب الطبيعة القبلية للحركة. لكن تمكن الأتراك والأكراد من بناء سلطة للحكم الذاتي في إقليم أذربيجان وأخرى في كردستان لمدة عام فقط (1945-1946)، ثم خذلهم المجتمع الدولي.

انفجرت مسألة القوميات مرة أخرى عقب قيام الثورة الإسلامية في فبراير 1979 وعادت الشعوب غير الفارسية تطالب باستعادة الحكم الذاتي، الذي كانت تتمتع به قبل مجيء الحكم البهلوي. أسعفت حرب العراق النظام فاستطاع إسكات وقمع العرب والتركمان والكرد والأذريين بيد من حديد، ولم ينفذ حتى المواد الهزيلة المتعلقة بحقوق هذه الشعوب والمنصوص عليها في دستور الجمهورية الوليدة. لكنه لم يتمكن من السيطرة الكاملة على كردستان الثائرة، إلا بعد 10 سنوات من قيام الثورة.

حاول الخميني الابتعاد عن خطاب الهوية القومية ومحاولة فرض الخطاب الإسلامي مع موقف معاد للقومية كمنتج من منتجات الغرب.

لكن التيار القومي استعاد خطابه تدريجياً في وقت تصاعد الانقسام داخل الإسلام المؤجج للصراع السني الشيعي. وازداد ارتباط الدين بالهوية الإتنية واللغوية في وقت تصاعد فيه قمع السنة والأكراد والبلوش والعرب ومن يطالبون بفصل الدين عن السلطة في وقت اقتراب موعد خلافة خامنئي.

يحتوي الدستور الإيراني على مواد عنصرية. فرغم أن المادة 19 من الفصل الثالث منه تنص على عدم التمييز بين الإيرانيين على أساس عرقي، فإن المادة 12 تتجاهل حق التنوع الإثني والحرية الدينية إذ تنص على أن المذهب الجعفري الإثني عشري هو المذهب الرسمي للدولة، كما تلزم المادة 121 رئيس البلاد بحماية هذا المذهب بكافة الوسائل. واشترط الدستور أيضا على من يتولى رئاسة الدولة أن يكون من أصل إيراني ويحمل الجنسية الإيرانية، ويكون مؤمنا ومعتقدا بمبادئ جمهورية إيران الإسلامية والمذهب الرسمي للبلاد. وهو ما يصادر حق المسلمين السنة من أكراد وتركمان وعرب وغيرهم في الوصول إلى الرئاسة.

كذلك، تعاني الأقليات في إيران من وطأة القيود التي تعوقها عن مباشرة حقوقها الثقافية رغم أن الدستور الإيراني ينص في البندين 15 و19 على حق الأقليات في استعمال لغاتهم في المجالات التعليمية والثقافية.

ونُقل عن مجلة لاكروا قصة دابرينا تمرز باستور، الإيرانية المسيحية السريانية، التي عرضت معاناتها كأقلية دينية مضطهدة في إيران اضطرت إلى اللجوء إلى أوروبا. وهي تنوي متابعة الدفاع عن الأقليات الدينية ضحية الاضطهاد والقمع. وكل ما تطلبه دابرينا من الحكام في إيران أن يتركوا لتلك الأقليات حرية ممارسة طقوسهم الدينية.

ولدت عام 1985، ومنذ طفولتها فهمت أن أهلها يخضعون "لضغط خاص"، ورقابة متزايدة. الكثير من أهل ديانتها هربوا من بلدهم نحو أوروبا والولايات المتحدة.

ومنذ أن لاحظت الدولة الإسلامية أن كنيستهم تستقطب المزيد من المؤمنين وعدداً من المسلمين، مُنعوا من إجراء الطقوس بالفارسية أو التوجه إلى المسلمين، مع اتهامهم بأنهم "صهاينة إرهابيين". طالب المتشدد أحمدي نجاد بإقفال أبرشيتهم بعد وصوله للحكم.

عندما كانت تدرس علم النفس، جاء رجال من وزارة الاستخبارات لاستجوابها، بشبهة عرقلة الأمن. قاموا حينها بتوقيفات عديدة وقالوا لها إنها إذا لم تتعاون معهم وتعطيهم أسماء الكهنة وأسماء المسلمين الذين غيروا ديانتهم سيحولون حياتها إلى جحيم. هربت بعد ذلك إلى أوروبا بعد أن حُكمت أحكاما ثقيلة بالسجن.

تعطينا هذه الحالة "المخففة" فكرة عما تتعرض له الأقليات في إيران، من اضطهاد ممنهج، سواء الدينية منها أو العرقية أو القومية أو الثقافية. الديانة البهائية مثلاً ممنوعة في إيران.

يتهم الناشطون من القوميات المضطهدة السلطات المركزية بممارسة سياسة التفريس حيالها منذ ثمانية عقود بهدف صهر هويتها في الفارسية. ردّت تلك الأقليات بإجراءات تساعدها بالحفاظ على هويتها، مع المطالبة في نفس الوقت بتطبيق المواد المعطلة من الدستور الحالي من المساواة، وصولا إلى مطالبة بعضها بالانفصال.

أتباع المذهب السني يعدون من أكبر الأقليات في إيران ويشكّلون عشرة في المئة من مكونات الشعب الإيراني. وهم أقلية كبرى وينتمون إلى عدة قوميات، هي البلوشية والتركمانية والكرد والعرب.

وتعتبر المناطق التي يسكنها أهل السنة في إيران من أشد المناطق فقرا وترديا، كما أن نسبة البطالة فيها هي الأعلى، ومعدل التنمية الاقتصادية هو الأدنى مقارنة ببقية المناطق الإيرانية. يضاف إلى ذلك أن سياسة الدولة الإيرانية في تلك المناطق هي الأكثر تشددا، مما يدفع تلك الأقليات إلى تشكيل مقاومات تدافع من خلالها عن هويتها، يصنفها النظام كدواعش.

يضاف إلى كل ذلك أن تلك الجماعات تتجمع على حدود دول أجنبية. وهو ما دعا النظام إلى اعتبار هذه الأقليات المغايرة مذهبياً وقومياً تهديدا لنظام الحكم.

يمارس النظام الآن أقصى درجات القمع للأقليات في الأقاليم، فمعظم القتلى في الأحداث الأخيرة و80% من الإعدامات هي في هذه المناطق ويطبق عليهم الحكم العسكري.

وكأن النظام يريد تحويل الثورة إلى تمرد أقليات فيقمعها بالعنف كي ترد بالعنف ما يسمح له بتصنيفها كأعداء في محاولة لتوحيد مكوناته الأخرى. ولا أظن أنه سينجح.

لقد راكم النظام الإيراني الكثير من المشاكل والتناقضات سواء في الداخل أو في الخارج.

تنقل، أزاديه كيان، أستاذة علم الاجتماع في جامعة باريس ديدرو، وجود عامل آخر، وهو المشاعر المناهضة للعرب والمعادية للإسلام في المقام الأول عند جانب من السكان، بسبب انتهاكات النظام الإسلامي الذي تخلى غداة ثورة 1979 عن الهوية القومية، التي سادت أيام الشاه لصالح الإيديولوجية الإسلامية مطالبين بعودة الملكية.

وقد تفاقمت هذه المشاعر أمام الازدهار الاقتصادي والمالي للبلدان العربية في المنطقة، وعلى الخصوص دول الخليج. ذلك الانتعاش يبطل، عمليا، إحساس تفوق الإيرانيين (الفرس) على العرب. تكتب "ذات مرة، أسرَّ لي مسؤول رسمي إيراني رفيع المستوى أنه بكى وهو يشاهد تطور هذه البلدان الصغيرة التي كانت بالأمس فقيرة ومتصحرة في الوقت الذي تقهقرت فيه إيران".

كل ذلك يعدّ وصفة تحتمل مخاطر جمة تهدد النظام الإيراني ووحدته.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.