المنطاد الصيني قبالة سورفسيد بيتش ‏
المنطاد الصيني قبالة سورفسيد بيتش ‏

منذ عبور منطاد التجسس الصيني للحدود الكندية - الأميركية وتحليقه ببطء فوق أجواء ولاية مونتانا، وبعد أن شاهده وصوره المواطنون الأميركيون ووزعوا أشرطة الفيديو على وسائل الاتصال الاجتماعي، أصبحت مسألة إسقاطه مجرد وقت فقط.

أن يحلق منطاد تجسس ضخم فوق الولاية ذات الكثافة السكانية الضئيلة، والتي تخفي حقولها الخضراء الشاسعة مرابض لمئات الصواريخ العابرة للقارات، وأن يحدث ذلك على علو منخفض نسبيا يمكن رؤيته بالعين المجردة، في انتهاك سافر للسيادة الأميركية، وألا تسقطه الولايات المتحدة، فهذا أمر مستحيل.

وحتى بعد إسقاط المنطاد بصاروخ واحد بعد ظهر السبت فوق المياه الإقليمية على الساحل الشرقي للولايات المتحدة قبالة شواطئ ولاية ساوث كارولينا، استمرت انتقادات السياسيين والمشرعين الجمهوريين للرئيس جو بايدن، الذين اتهموه بالتردد بإسقاط المنطاد، والسماح له بالتحليق من غرب البلاد إلى شرقها من دون أن يشرح للأميركيين أسباب هذا التلكؤ.

طبعا، هناك العديد من المشرعين الجمهوريين الذين سينتقدون بايدن مهما فعل، ومعظم الانتقادات مبنية على معلومات استخباراتية ناقصة ومحدودة، وسارع هؤلاء لإطلاق هذه الانتقادات قبل حصولهم على أول ايجاز استخباراتي حول المنطاد وطبيعته وقدراته والضرر الذي يمكن أن يكون قد تسبب به.

سيشرح المسؤولون في أجهزة الاستخبارات ووزارة الدفاع، هذا الأسبوع، لرؤساء اللجان المختصة في الكونغرس ملابسات هذا الحدث، رغم أن العديد من الأسئلة الشرعية التي طرحها المشرعون والخبراء سوف تبقى بالضرورة، على الأقل في المستقبل المنظور، من دون أجوبة واضحة او دقيقة. وقبل معرفة حالة معدات التجسس التي سينتشلها الغواصون وإرسالها إلى مختبرات مكتب التحقيقات الفدرالي (الاف بي آي) لمعاينتها، سوف يضطر المسؤولون للإجابة على أسئلة مثل: لماذا لم يسقط سلاح الجو المنطاد حين حلق فوق جزر تملكها الولايات المتحدة، أو حين حلق في أجواء ولاية آلاسكا، وهي مناطق إما لا يقطنها الأميركيون أو يسكن فيها عدد ضئيل من المواطنين. ولماذا لم يتم إعلام الكونغرس والأميركيين بهذا الانتهاك الصيني للسيادة الوطنية، رغم علم السلطات العسكرية والسياسية بوجوده وطبيعة مهمته؟ أيضا، لماذا صرح مسؤول في وزارة الدفاع أن مثل هذه الانتهاكات "المنطادية" للسيادة الأميركية قد جرت أيضا (3 مرات) خلال ولاية الرئيس السابق دونالد ترامب، ومرة واحدة خلال ولاية بايدن، قبل الانتهاك الفاضح للمنطاد الأخير، ولماذا لم يتم الإعلان عن هذه الانتهاكات؟

ما هو مؤكد هو أن البالون الأبيض الذي شاهده ملايين الأميركيين، فجّر العلاقات الأميركية - الصينية المتأزمة أصلا، حتى قبل تدميره عسكريا، ووضع هذه العلاقات على مشارف حرب باردة جديدة، ولكن هذه المرة مع دولة تمثل التحدي الاقتصادي والعلمي والاستراتيجي الرئيسي للولايات المتحدة في هذا القرن، وليس كما كان الحال خلال الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفياتي الذي كان قوة نووية مبنية على أعمدة اقتصادية هشة.

لا أحد يعلم بيقين – هناك فقط مسلسل طويل من التكهنات – لماذا أرسلت الصين منطاد تجسس وجازفت باكتشافه، وذلك قبل أيام من وصول وزير الخارجية أنتوني بلينكن لبكين في أول زيارة يقوم بها وزير خارجية أميركي للصين منذ 6 سنوات؟ هل أخفقت المهمة لأسباب تقنية؟ أم كما تكهن أكثر من محلل أن متشددين في الأجهزة الأمنية الصينية أرادوا استخدام المنطاد لمنع الرئيس شي جينغ بينغ من تحسين العلاقات مع واشنطن؟ وتساءل هؤلاء لماذا لم تقم الصين بإبلاغ الولايات المتحدة وكندا بأن منطادا "علميا" صينيا قد دخل أجواء البلدين "بطريق الخطأ" كما ادعى المسؤولون الصينيون لاحقا، لو كان المنطاد بالفعل للاختبارات العلمية؟

تأجيل بلينكن لزيارته للصين كان ردا مناسبا – ولو لم يفعل ذلك لكان الجمهوريون استخدموا زيارته لفتح جبهة جديدة ضد الرئيس بايدن – وسخط المسؤولين الحكوميين والمشرعين في الكونغرس، ورد الفعل الصيني الأولي الغاضب على إسقاط المنطاد – وهو رد حتمي لاعتبارات وطنية تتعلق "بهيبة" الصين ولاعتبارات سياسية داخلية – يعني أن البلدين سيبقيان خلال الأشهر القليلة المقبلة على الأقل، وراء المتاريس السياسية يتراشقان الاتهامات. وكل هذا سيجري على خلفية محاولات بطيئة من قبل الحكومتين منذ القمة التي جرت بين بايدن وشي جينغ بينغ في بالي، إندونيسيا في نوفمبر الماضي لتحسين العلاقات التي شهدت في السنوات الماضية، خلال ولايتي الرئيسين دونالد ترامب وبايدن، توترا لم تشهده منذ سنوات عديدة. الاتفاق على زيارة بلينكن تم خلال محادثات اندونيسيا.

وحتى خلال فترات التوتر فإن قادة أكبر اقتصادين في العالم، والذي يربط بينهما تبادل تجاري ضخم واعتماد اقتصادي متبادل، رغم سلسلة العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة ضد الصين خلال السنوات الماضية، لا يستطيعان تجاهل بعضهما البعض. الصين بصفتها الاقتصاد الثاني في العالم هي دولة حيوية لاستقرار ونمو الاقتصاد العالمي. والاقتصاد الأميركي الأقوى في العالم لا يستطيع صيانة نموه والحفاظ على عافيته إذا كان في حالة مواجهة شاملة مع الصين. وعلى سبيل المثال، الأضرار التي لحقت بالاقتصاد الروسي جراء غزو أوكرانيا، لم تؤثر كثيرا على الاقتصاد العالمي، لأن روسيا التي كانت تحتل المرتبة الحادية عشرة بين الاقتصادات في العالم قبل الغزو، لم تكن في السابق وحتما ليست اليوم حيوية جدا لاقتصاد العالم وعافيته.

كل هذا يعني أن بلينكن سيزور بكين ربما في النصف الثاني من السنة الحالية لأسباب اقتصادية، وأيضا لأن القضايا الخلافية العالقة والحساسة ستفرض على الطرفين معالجتها أو تخفيف حدتها لكي لا يقع البلدان في دوامة حرب باردة سوف تكون أخطر من الحرب الباردة التي دارت بين واشنطن وموسكو لعقود. وهذه القضايا الخلافية تشمل التوتر حول مصير تايوان واجراءات الصين العدائية تجاه الجزيرة، والتوتر العسكري بين البلدين في بحر جنوب الصين في ضوء إصرار واشنطن على تعزيز علاقاتها العسكرية مع حلفائها الذين يرفضون العيش في ظل الهيمنة الصينية، والتجسس الصيني العسكري والاقتصادي ضد الولايات المتحدة بما في ذلك انتهاكات الصين للملكية الفكرية للاختراعات الأميركية.

واكتشاف منطاد التجسس الصيني جاء في وقت برزت فيه مشاعر نقدية وحتى عدائية تجاه الصين في أوساط قادة الحزبين الديمقراطي والجمهوري في الكونغرس. هذه المشاعر تنمو منذ سنوات، ومن هنا خطورة التعامل مع منطاد التجسس بانفعالية وانتصارية انتهازية. المسؤولون في واشنطن ركزوا على أن بلينكن أجل زيارته لبكين ولم يلغيها، ما يعني أن إدارة الرئيس بايدن، بعد اتخاذها للإجراءات المناسبة التي تطلبتها السيادة الأميركية، وبعد استيعابها للاستياء الجمهوري المبالغ فيه، سوف تحاول استئناف الاتصالات الديبلوماسية مع الصين وإدارة علاقات ثنائية تعتبر الأكثر تعقيدا وخطورة وأهمية في العالم.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.