العديد من عناصر داعش ينتشرون في البادية السورية. أرشيفية
عناصر من الجماعات المتطرفة أثناء اعتقالهم بين سورية والعراق. إرشيفية.

على الرغم من مرور عدة سنوات على انتهاء المواجهات العسكرية المباشرة مع تنظيم داعش، لا يزال عشرات الآلاف من إرهابي التنظيم محتجزين في إقليم كردستان العراق ومناطق الإدارة الذاتية "الكردية" شمال شرقي سوريا. فكثير من الدول التي ينحدر منها آلاف الإرهابيين هؤلاء، أو يحملون جنسياتها، أغلبيتها المطلقة أوربية، يرفضون استعادة مواطنيهم هؤلاء، ويحاولون بشتى السُبل إيجاد آليات تصريف لهم، بأية شروط وأثمان كانت، خلا إمكانية استعادتهم.  

الوجه العلني والمباشر لحجة هذه الدول في الامتناع عن استعادة هذه النوعية من مواطنيها يقوم على ثلاثة أركان متراكبة: فمن جهة تقول إن استقدامهم من البيئة الواقعية التي نفذوا فيها أفعالهم الجرمية، أنما قد يرفع عنهم طيفاً واسعاً من الأدلة والبراهين وجهات الادعاء ومستمسكات الإدانة، التي من المفترض أن يتم استخدامها وأن تقف في مواجهتهم، أثناء انعقاد أية محاكمة احترافية ضدهم.  

كذلك تقول القراءة الأوربية/العالمية إن كتلة القوانين والمفاهيم والسياقات الحقوقية في هذه البلدان إيجابية ومريحة و"إنسانية" للغاية. وتالياً، يمكن لعشرات الآلاف من أخطر الإرهابيين هؤلاء أن يستفيدوا منها بأشكال مختلفة، بما في ذلك إمكانية التملص من الإدانة والسجن.  

فوق الأمرين، فإن الأجهزة الأمنية والاستخباراتية الأوربية/العالمية تضمر خشية مما قد يشكله استقدام آلاف الإرهابيين المشهورين على البيئة الاجتماعية والاستقرار الأمني في هذه البلدان، سواء داخل السجون عبر تواصلهم مع عشرات الآلاف من السجناء، وتاليا إمكانية لقحهم بالأفكار وآليات الفعل المتطرفة، أو ما قد يشكلونه من إلهام للخلايا والشبكات الإرهابية العابرة للحدود، التي قد تحول هدف "تحرير" هؤلاء إلى هدف أساسي في برامجهم وممارساتهم.  

صحيح، تملك تلك المبررات كل أشكال الشرعية، لأية دولة تسعى لحماية السلم الاجتماعي والأمن القومي الخاص بها، إلا أنها تكشف الكثير من الأبعاد وآليات العلاقة التي تسعى هذه الدول لأن تكرسها، كنمط المكانة وشكل العلاقة التي تربطها مع الكيانات الأخرى، بالذات الأكثر هشاشة وهامشية، مثل إقليم كردستان ومناطق الإدارة الذاتية شمال شرقي سوريا، التي تراها وتعتبرها جغرافيات ومجتمعات وكيانات أقل مكانة وجدارة، وتالياً أكثر قابلية لأن تتحمل وزر هؤلاء الإرهابيين نيابة عن هذه الدول وفي سبيل استقرار مجتمعاتها وأنظمتها القضائية، مقابل بعض أنواع الدعم المادي والسياسي الذي قد تبذلها لهم.  

يمكن بذل مجادلة فكرية تثبت ذلك في كل تفصيل كان، مجادلة تتوصل دوماً إلى نتيجة واحدة: ثمة فوقية ما، وإن كانت مهذبة وتسعى لأن تتمظهر على شكل تحالف سياسي وأمني.  

فنفس هذه الدول التي تعتقد أن استقدام هؤلاء الإرهابيين -إرهابيها- قد يفقدها كتلة القرائن والشواهد التي قد تكون في مواجهتهم في أية محاكمة على أراضيها؛ فأنها منذ قرابة عشرة سنوات تماطل وتعيق إمكانية تأسيس وانعقاد محاكمة دولية شرعية بحق هؤلاء الإرهابيين، في أماكن احتجازهم الحالية.  

تفعل الدول الأوربية ذلك، مراعاة للدول والكيانات والأنظمة الإقليمية الأكبر، صاحبة المصلحة والشراكة الاستراتيجية مع هذه الدول الأوربية، مثل الأنظمة في سوريا تركيا والعراق. لكنها تفعل ذلك أيضاً، كي لا تدخل في حرج ومواجهة مع الرأي العام والمنظمات الحقوقية التي في بلدانها، التي قد تتهم حكوماتها بترك مواطنيها أمام نُظم قضائية غير مُحكمة واحترافية وذات استقلالية ومصداقية.  

على نفس المنوال، فإن الزعم بعدم تناسب بنية القوانين والمنظومة القضائية الأوربية لهذه النوعية من الجرائم والإرهابيين، وإمكانية استغلالهم للأبعاد "الإنسانية" التي تتضمنها تلك المنظومة، ورفض تغييرها بأي شكل كان، أنما يُشير بوضوح إلى نوع من الفوقية المضمرة لهذه الدول، التي تصر على عدم تغير أي من تلك المضامين "الإنسانية"، لمجموعة من الالتزامات السياسية والأخلاقية والثقافية التي تعتقد أنه من المستحيل أن تتخلى عنها. لكن، ومقابل ذلك الاعتقاد والافتراض، فإنها تفترض أن المجتمعات الأخرى وفضائها الإنساني والأخلاقي، إلى جانب هوية وسلوك مؤسساتها الأمنية والقضائية، مناسبة لهذه النوعية من الوحشية والإجرام الذي تقوم عليه تنظيمات مثل داعش وأعضائه، وتالياً تعتبرها أقل إنسنة واستجابة لمجموعة المعايير الحقوقية والإنسانية.  

في السياق ذاته، فهي تعتبر الخطورة الأمنية التي تعتقد الأجهزة الاستخباراتية في هذه الدول أنها قد تكون مرافقة لعمليات استقدام الإرهابيين، وتسعى لتجنبها، "شيئاً عادياً" في حال حدوثه في أماكن الاحتجاز الحالية، مثلما جرى في الهجمة الإرهابية على سجن الحسكة قبل عامٍ من الآن. وهو افتراض قائم على نوعية من المشاعر والأفكار التي ترى إنه ثمة مجتمعات ما من المفترض أن تتحمل العنف والصراعات والقلاقل الأمنية نيابة عن مجتمعات أخرى!.   

 أخيراً، ثمة طاقة ابتزاز لا يُمكن تغطيتها في هذا المشهد، فأنماط الدعم السياسي والعسكري النسبية للغاية، التي تبذلها هذه الدول للكيانات والمجتمعات المحلية في بلداننا، فيما تسميه "الشركة في محاربة الإرهاب"، تبدو بوضوح أشكالاً من الدعم المشروط، القائمة والمرتبطة بالتزامات من قِبل هذه الجماعات المحلية بالاحتفاظ بهؤلاء الإرهابيين. وهذا النوع من الشرطية في عمليات الدعم أنما يكشف خلو الشراكة من أية مضامين فكرية وعقائدية وروحية في مواجهة ما يُعتبر خطراً على الإنسانية جمعاء، فهي شراكة باردة ومجردة وميكانيكية، حتى إن المرء يُمكن أن يتخيل إمكانية انقلابها لما هو الضد في أية لحظة.  

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.