لم تتغير أحوال مصر منذ قيام حضارتها قبل ستة آلاف عام: فرعون يحكم والغلابة يبنون قصوره ومقابره الضخمة، ويقتاتون من فتات مائدته.
مطلع القرن التاسع عشر، قاد الألباني محمد علي باشا الكبير نهضة عسكرية مصرية، مولّها بالاستدانة وبالإفادة من عداء الفرنسيين للإنكليز، فدعم الفرنسيون وطوروا جيشه ضد السلطنة العثمانية المتحالفة مع بريطانيا. في نهاية المطاف، فازت بريطانيا على فرنسا والباشا، وأوقفت زحف ابنه ابراهيم إلى الأستانة، وفرضت نفسها سلطة انتداب على مصر بالتعاون مع خلفاء محمد علي من الخديويين الملوك، الذين غرقوا بالفساد والديون، فخسروا قناة السويس والبلاد بأكملها.
في خمسينيات القرن الماضي، انقلب العسكر وجمال عبدالناصر على الملك فاروق، آخر سليلي محمد علي، واستولى الجيش على الاقتصاد، وعمم نظريته الاشتراكية البلهاء كتأميم المصانع والأراضي، فانهارت مصر اقتصاديا وعسكريا، ما أجبر الجيش على الاستدارة في زمن الجنرال أنور السادات، الذي تبنى النموذج الغربي، ومثله فعل بعده الجنرال حسني مبارك. وأثمرت جهود الرجلين نموا اقتصاديا مصريا كان يُفترض أن يرثه جمال مبارك، لكن العسكر كان لهم رأي آخر، فخاضوا انقلابا على شكل ثورة، أتبعوه بانقلاب على الثورة، وتسلم الجنرال عبدالفتاح السيسي الحكم في 2014، حاكما أوحد وإلى الأبد.
لا بأس في غياب الديموقراطية عن مصر، فالديموقراطية من الكماليات التي تغيب عن الشرق الأوسط، من تركيا الى إيران ومن المحيط إلى الخليج. لكن المشكلة هي في فقدان العسكر لأي من الكفاءة المطلوبة لإدارة الدول واقتصاداتها. هكذا، لم يلبث أن تسلم السيسي الحكم، حتى عدل القوانين للسماح للجيش باستكمال إطباقه على الاقتصاد، غالبا كجائزة ترضية لكبار الضباط من مناصريه ممن سمحوا له بالانقلاب وتسلم الحكم، وممن يشكلون أركان منظومة إمساكه بالشعب المصري من رقبته.
مشكلة مصر هي في الغياب التام لدى السيسي والعسكر لأي فهم أو إدراك أو معرفة بشؤون الاقتصاد والدول وإدارتها. العسكر يعوّلون في الغالب على الدعاية وتزييف الحقائق لفرض صورة مغايرة للواقع، يصدقها عادة الحاكم وأركان حكمه، مثلما أوهم العسكر عبدالناصر أن جيشه صار على أبواب تل أبيب في حرب 67، فانتهت الحرب والرئيس المصري الراحل يبكي خائبا. على الأقل، كان لدى عبدالناصر بعض الحياء، فتظاهر أنه استقال، وأرسل استخباراته تحشد الحشود لعودته عنها في مسرحية لا يصدقها إلا الغلابة البسطاء، وما أكثرهم في أم الدنيا مصر ودنيا العرب معها.
السيسي أنفق 13 مليار دولار على توسيع قناة السويس، فلم تتعد عائداتها 6 مليارات سنويا، على عكس ما توقع هو وأركان حكمه. يوم تدشين التوسيع، شن الإعلام المصري حملة دعائية للسيسي شابهت حملات ناصر عن تأميم القناة أو بناء السد العالي، وما كان ينقص السيسي الا تفاخر العندليب الأسمر الراحل بإنجازاته كما كان يفعل في زمن "الريّس جمال".
لم يعتبر السيسي من استثماره الفاشل في القناة، فمضى يبنى عاصمته الجديدة الضخمة، على طراز فراعنة الزمن الغابر، بتكلفة 59 مليار دولار (الإنفاق السنوي لحكومة مصر حوالي 100 مليار دولار ومخزون العملات الأجنبية 35 مليارا). في كل الأحوال، مبروك للمصريين عاصمتهم الجديدة وأعلى برج في أفريقيا، ولكن بناء عاصمة جديدة في بلد يترنح اقتصاديا هو كالعاطل عن العمل الذي يشتري لنفسه قصرا بالدين، ويخاله استثمارا.
ما تحتاجه مصر هو نمو اقتصادها، وهذا يحتاج بدوره لاستثمارات أجنبية، والأخيرة تحتاج إلى ثلاثة عناصر كلها مفقودة في بلاد النيل: قضاء مستقل، وإدارة حكومية غير فاسدة، وتنافسية حسب قواعد السوق لا حسب القوانين التي تمنح العسكر أفضلية على باقي قوى السوق.
لم يقدم السيسي أيا من هذه العناصر، بل مضى يستدين ويبني مدينة تخفي خلف لماعيتها الفقر المدقع للمصريين الذين يعيشون في المقابر والمزابل.
هذه المقالة لا تطالب السيسي بالرحيل، ولا تطالب بديموقراطية فورية في دولة لم يعتد شعبها على أدنى التقاليد التي تشترطها الديموقراطية (مثل حرية الرأي المطلقة، وحرية الكفر والإلحاد، وحرية المثلية الجنسية وغيرها). الديموقراطية في مصر متعذرة في وجود من يتهجم على نجم كرة القدم محمد صلاح لمجرد بثه تغريدة تظهره وعائلته أمام شجرة عيد الميلاد، وكتب تحتها "ميلاد مجيد".
الديموقراطية في مصر ستعيد إلى السلطة حكاما يشبهون الفراعنة، وعبدالناصر، والإخوان المسلمين في فترة حكمهم القصيرة العقد الماضي، حكاما منتخبين يقمعون الحريات، وحكاما ليست لديهم أدنى فكرة عن كيفية الحكم وإدارة الاقتصاد والسعي لتحقيق مصالح مصر والمصريين.
ما تطالب به هذه المقالة هو أن يسّلم السيسي وعسكر مصر الحكم لأهله من الاختصاصيين. الحكومات في الخليج، مثلا، ليست ديموقراطية، لكنها حذقة كفاية حتى تدرك ما الذي تحتاجه لتصبح جذابة لرؤوس الأموال العالمية وللسياح والمستثمرين.
حاكم دبي نائب رئيس الإمارات الشيخ محمد بن راشد نشر كتابا يتحدث فيه عن كيف بنى دبي بعقلية رجل الأعمال، وهو النموذج الذي تبنته الإمارات وبعدها السعودية. هو نموذج يسخّر كل مقدرات الدولة وسياساتها في خدمة النمو الاقتصادي واستقطاب المستثمرين والسياح، على عكس النموذج المصري الحالي، القائم منذ زمن الفراعنة، والذي يسخّر كل مقدرات الدولة وسياساتها في خدمة تلميع صورة الحاكم وتصويره كمخلّص أوحد.
ثم أن صورة الحاكم ستلمع من تلقاء نفسها لو راح اقتصاد مصر ينمو، وتقلّص الفقر، وازدادت البحبوحة بين الناس.
عبدالفتاح السيسي يمضي على طريق الخديوي إسماعيل: يغرق ومعه مصر في الديون لتلميع صورته، فيما الواقع ينذر بانهيار قادم، انهيار لا قدرة على وقفه لدى صندوق النقد الدولي، ولا لدى الأموال الخليجية الضخمة صاحبة الفضل حتى الآن على السيد السيسي واقتصاده.