الأزمة اللبنانية.. فصل جديد
الأزمة اللبنانية.. فصل جديد

لن يخرج الدخان الأبيض من الإجتماع الخماسي الذي يعقد في باريس من أجل متابعة الأزمة اللبنانية، فالكرادلة الغربيون والعرب المجتمعون بالعاصمة الفرنسية، لا يوجد بحوزتهم غير الوصفة الكويتية للحل، وليس على جدول أعمالهم اسما يعرضونه على اللبنانيين لعلهم يجمعون عليه من أجل سد الفراغ الرئاسي الذي بات استمراره يهدد شكل الكيان ومستقبله، فأزمة الاستحقاقات عالقة عند من يعيش حالة الإنكار ويرفض الاعتراف بأن هناك شيئا تغير، لذلك خرجت أصوات وازنة في الحياة السياسية باتت تجاهر بموقفها من الاستحقاقات، إذ أكدت أنها سوف ترفضها إذا ذهبت بإتجاه يشبه مرحلة سابقة 2016  تحت ذريعة الواقعية السياسية، ولكنها بالحقيقة واقعية مسلحة تناسب طرفا واحدا من اللبنانيين.

في مؤتمره الحزبي العام حاول رئيس حزب الكتائب، النائب سامي الجميل، تصويب الموقف، مستدركا أن هناك في الداخل من يريد اعادة تعويم الواقعية السابقة تحت ذريعة الاستقرار، وأيضا في الخارج وحتى ممن يجتمعون في باريس تحت ذريعة انشغالات دولية بملفات أخرى تهدد الأمن والاستقرار العالميين، لذلك حدد الجميل خيارات التسوية وليس المساومة، الطلاق وليس الاقتتال فقال: "قبل التعديل بالنظام السياسي علينا استعادة بلدنا وتحرير قراراتنا . لهذا السبب وانطلاقا من هنا ومن هذه اللحظة نقول إننا لسنا مستعدين للخضوع لإرادة حزب الله في لبنان وندعو كل اللبنانيين لتحمل مسؤولياتهم. ونقول لحزب الله نحن غير مستعدين للاستمرار بهذا الوضع، وإذا كان المطلوب الطلاق بين الجمهوريتين فليعلنها حزب الله". 

فعليا نجحت 17 تشرين في أدبياتها، وفي فضائها العام السياسي والثقافي والاجتماعي الذي شكلته، بدفع نخب حزبية وجماعاتية وطائفية إلى البحث بمواضيع  كانت تعتبرها من المسلمات أو المقدسات ودفعت ببعض القوى الحزبية حتى التأسيسية منها إلى مراجعة حتى ثوابتها الكيانية ما جعلها تتقاطع بشكل قريب من الاندماج مع 17 تشرين أو بشكل متقطع وقفا لمصالحها المشتركة مع الانتفاضة، ولكنه في الحالين اعتراف من هذه القوى بأن هناك متغيرا كبيرا يجب استدراكه ويقابله متحول آخر خطير يجب التنبه إليه لذلك في كلام الجميل، استدراكان الأول أن الصيغة ليست مقدسة، والثاني أن العيش المشترك لم يعد مقدسا أيضا.

في الأول أن هناك قابلية لبنانية عامة على مناقشة موضوعية لمستقبل النظام السياسي في لبنان يطرح فكرة إمكانية مناقشة الصيغة دون المس بالمناصفة، وهذا يعني مناقشة تطويرها الذي حصل في اتفاق الطائف الذي منع تطبيقه، ولكن الصيغة والطائف لا يمكن البحث في طبيعتهما  كنظام سياسي بظل موازين القوى الحالية، وبعبارة أخرى يمكن مناقشة النخب المسيحية حول الصيغة، ويمكن مناقشة النخب السنية حول الطائف، ولكن هل من الممكن القيام بنقاش وطني حول سلاح حزب الله، فإذا كان هذا السؤال مستحيلا فإن الاستدراك الثاني يصبح حلا عند جماعات وأحزاب وازنة بعيدا عن حجم وموازين القوة، فالعيش المشترك في الأزمة الحالية دفع هذه القوى للخلاص من الهيمنة إلى طرح فكرة العيش الواحد.

الجميع يعلم، خصوصا الكتائبيين بعد تجربة الحرب المريرة، أن تقسيم لبنان مستحيل، كما أن هيمنة طرف واحد على الدولة مستحيل أيضا، لذلك رمى الكرة بملعب الطرف الذي يرفض أن يتعلم من تجربة من سبقوه في حكم لبنان، لذلك أنهى الجميل كلامه عن الطلاق بهذه الجملة: " لن نقبل أن نعيش كمواطنين درجة ثانية ولن نخضع، سنبقى هنا وسنواجه جميعا مع بعضنا بعضا". 

عود على بدء إلى باريس، حيث من الواضح أن جميع القوى اللبنانية المواقفة منها والمعترضة أمام شبه إجماع دولي على أن الحل للأزمة اللبنانية الحالية لم يعد حلا ترقيعيا على غرار الحلول السابقة، التي أدت للوصول إلى هذا المأزق الكبير سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، فإن جوهر اجتماع باريس وإن كانت هناك بعض التناقض في المقاربات، فقد أجمع المجتمعون في باريس على خارطة الطريق الكويتية التي باتت تحظى بمظلتين خليجية وعربية بعد انضمام القاهرة، وبتأييد أوروبي بسبب الرعاية الفرنسية، وغطاء ودولي نتيجة حضور واشنطن، وهذا ليس بالضرورة تموضوع سياسي، ولكن بعض الأطراف المستقوية تبرر رفضها له تحت ذريعة سياسة المحاور التي تتقنها.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.