من الهجوم الذي استهدف شهر يناير مجمعا لوزارة الدفاع الإيرانية بأصفهان
الهجوم الذي استهدف بطائرات مسيرة مجمعا تابعا لوزارة الدفاع الإيرانية بأصفهان أواخر الشهر الماضي.

قبل بضعة أيام تعرّضت مواقع عسكرية إيرانية لغارات صوّرتها ووثقتها هواتف محمولة لمواطنين إيرانيين أظهرت حدوث إنفجارات وحرائق، وفي اليوم التالي قالت وسائل الإعلام أن غارة قد استهدفت مصنع صواريخ في أصفهان، وأجمعت على أن إسرائيل هي التي قامت بها رغم أنها تقع في قلب منطقة حسّاسة تحتوي على أهم المنشآت النووية الإيرانية وخاصة محطة نطنز الشهيرة.

وبغضّ النظر عن حجم هذه الضربة وعن الخسائر التي نجمت عنها فإنها تُعتبر ضربة معنويّة كبيرة للنظام الإيراني وتحمل رسالة واضحة بأنه لا يوجد منطقة في إيران لا يمكن استهدافها من إسرائيل إذا اقتضت الحاجة، فإذا كانت الطائرات التي ضربت هذا المصنع قد قطعت المسافة الطويلة من إسرائيل وتجاوزت الدفاعات الجوية الإيرانية فهو دليل على ضعف هذه الدفاعات، أما إذا انطلقت وتمّ توجيهها نحو هدفها من داخل إيران كما ذكرت أغلب وسائل الإعلام فهذا يدل على اختراق أمني ومخابراتي أكثر خطورة.  

وبعد عدة ساعات أغارت طائرات مُسيرة مُرجّح كذلك أنها إسرائيلية على قافلة شاحنات إيرانية بمجرّد عبورها من العراق إلى داخل الأراضي السورية مما أدّى إلى تدمير ست شاحنات وبعدها تمّ تدمير سيارة دفع رباعي وصهريج وقود مما نتج عنه حسب المرصد السوري لحقوق الإنسان مقتل عشر مُسلحين موالين لإيران من جنسيات غير سورية، وتُعتبر هذه الضربات استمراراً لسلسلة طويلة من العمليات تم فيها قصف مراكز عسكرية ونووية واغتيال قادة عسكريين وعلماء مسؤولين عن البرنامج النووي والصاروخي الإيراني.  

ومن الطبيعي على من يُتابع هذه الأحداث أن يتساءل حول كيف تقوم دولة صغيرة مثل إسرائيل بتوجيه ضربات عسكرية متتالية إلى إيران التي يبلغ عدد سكانها عشر أضعاف عدد سكان إسرائيل ومساحتها أكبر من مساحة إسرائيل بخمس وسبعين مرّة، هذا فوق أن إيران تفرض سيطرتها على دول عربية هي العراق وسوريا ولبنان واليمن والتي يتجاوز عدد سكانها مئة مليون إنسان، ولماذا لم تتجرّأ إيران حتى الآن على القيام بأي رد، وفي نفس السياق لابدّ كذلك من التساؤل حول سبب انتصار إسرائيل على جيرانها ولماذا مثلا استطاعت هزيمة عدة جيوش عربية خلال ستة أيام عام 1967.   

وكانت الأنظمة العربية تبرّر هزائمها بإدّعاء أنها تحارب الولايات المتحدة وغيرها من دول الغرب وليس إسرائيل، وأحد الأمثلة على ذلك خطاب الرئيس جمال عبد الناصر الشهير في يوليو بعد هزيمة 1967 والذي قال فيه "انتظرناهم من الشرق فأتوا من الغرب"، في إدّعاء أن الطائرات التي دمّرت سلاح الجو المصري لم تأتي من إسرائيل بل كانت طائرات أميركية وبريطانية أتت من قواعدها التي كانت موجودة في ليبيا في ذلك الوقت، رغم أن ما قاله كان بعيداً تماماً عن الصحة لأن الوقائع أثبتت أن إسرائيل لم تكن يوماً بحاجة إلى مساعدة من جيوش أجنبية حتى تهزم الدول المحيطة بها.  

ثم برزت فيما بعد ومع استمرار الهزائم العربية شكوك حول ضعف فعالية السلاح الروسي الذي تستعمله الجيوش العربية مُقارنةً مع السلاح الغربي المُستخدم من قبل إسرائيل، وهي ناحية صحيحة ولها أهميتها مع أن الفرق في نوعيّة الأسلحة لا يُبرّر هزائم بهذا الحجم، وهنا لابد من الإشارة إلى أن إسرائيل ليست مجرّد مُستورد للأسلحة الغربية، بل هي اليوم واحدة من أكبر مُصنّعي ومُصدّري الأسلحة في العالم بعد أن توطّنت فيها صناعات عسكرية عديدة.  

فهناك في إسرائيل اليوم 200 شركة صناعات عسكرية بينها أربع شركات كبرى تم تصنيفها عام 2015 ضمن أكبر مقاولي الدفاع في العالم، وعقدت إسرائيل عام 2020 صفقات لتصدير أسلحة بقيمة 7.2 مليار دولار كما أصبحت رائدة في تصنيع الطائرات بدون طيار وشبكات الرادار ومعدّات الحرب الإلكترونية وفي صناعة صواريخ متطوّرة بالشراكة مع الهند، كما تفوّقت عالمياً في الدفاع الجوي عبر منظومة القبّة الحديدية ولذلك احتلت مكانة متقدمة ضمن أكثر عشر دول تصديراً للأسلحة.   

أما إذا أرادت دول الشرق الأوسط التوقّف عن خداع نفسها ومعرفة الأسباب الحقيقية لقوة إسرائيل فلابدّ من تذكيرها بأن إسرائيل ما زالت منذ قيامها حتى اليوم الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، وتؤكدّ أحداث التاريخ المعاصر أن للنظام الديمقراطي أفضلية على الأنظمة الديكتاتورية في الحروب العسكرية.  

وتقدّم الحرب الروسية على أوكرانيا آخر الأمثلة على ذلك، حيث أن حجم الجيش الروسي يفوق بأضعاف حجم الجيش الأوكراني عدداً وتسليحاً، ولكن في الوقت الذي كان الشباب الروس يهربون عبر جميع المنافذ الحدودية لتجنّب الذهاب إلى هذه الحرب كان الشباب الأوكرانيين يأتون من الخارج للمشاركة في الدفاع عن بلدهم الذي يشعرون بالولاء له لأنهم يُساهمون في رسم سياساته عبر ممثليهم الذين انتخبوهم ضمن مؤسسات الدولة الديمقراطية، بينما يشعر المواطنون في الدول الديكتاتورية بأنهم مجرّد رعايا في بلد لا يقيم لهم وزناً ولا يجدون سبباً للتضحية بحياتهم دفاعاً عنه، ولذلك ستدخل هذه الحرب عامها الثاني دون أن تستطيع روسيا تحقيق إنتصار رغم أنها فقدت مئتي ألف جندي بين قتيل وجريح حسب آخر التقديرات الغربية.  

ويمكن التأكّد من ضعف ولاء المواطنين في الأنظمة الديكتاتورية لبلادهم في نجاح جهاز الموساد الإسرائيلي في اختراق المؤسسات العسكرية والأمنية والعلمية في دول الشرق الأوسط وبشكل خاص في دول المحور الإيراني، وصلت إلى درجة أن تتمكّن إسرائيل من الاستيلاء على كامل الأرشيف النووي الإيراني من قلب طهران والمكوّن من 55 ألف وثيقة وعشرات الأقراص المُدمّجة دون أن نسمع في المقابل عن نجاح مخابرات أجنبية في اختراق أجهزة الدولة في إسرائيل.  

وكذلك من أسباب تفوّق النظام الديمقراطي الالتزام بقاعدة الشخص المناسب في المكان المناسب، حيث يتولى قيادة أجهزة الدولة السياسية والعسكرية الأشخاص الأكثر كفاءة، بينما في الديكتاتوريات يتم اختيار كبار المسؤولين والقادة اعتماداً على الولاء للنظام ولشخص الحاكم، ولذلك شاهد العالم تبديل القادة العسكريين الروس كل بضعة أسابيع بعد ارتفاع نبرة الانتقادات لأدائهم الفاشل في الحرب.  

كما أن للنظام الديمقراطي آلية لتدارك واصلاح الأخطاء حيث تفضح الصحافة الحرّة فساد أو تجاوزات المسؤولين ويتولّى القضاء المستقل محاسبتهم، بينما تغيب هذه الآليات تماماً في الديكتاتوريات، ولوحظ ذلك أيضا في عدم جاهزية الوحدات العسكرية الروسية من الناحية اللوجيستية نتيجة سرقة بعض القادة لمُخصصات وحدتهم العسكرية من الطعام والوقود وبقية اللوازم، ووضع الجيوش في أغلب أنظمة الشرق الأوسط البعيدة عن الديمقراطية لا يختلف كثيراً عن وضع الجيش الروسي.  

ولكن يبقى أكثر الأسباب أهمية أن ديكتاتوريات الشرق الأوسط تخشى حدوث حروب واسعة خوفاً من أن تستغل شعوبها حالة الحرب وضعف الأجهزة الأمنية والعسكرية في الثورة على حكامها، لذلك تتجنّب إيران التصعيد ولا تُحاول الرد على إسرائيل خوفاً من ضربة إسرائيلية كبيرة تهدّد استقرار نظامها السياسي نفسه لأنها تعرف أنه مكروه من شرائح واسعة من الشعب.  

ولنفس السبب لم يقم حزب الله بأي شيء للرد على الإهانات التي تعرّضت لها إيران أو الضربات التي تعرّضت لها ميليشياته داخل سوريا لأن ضربة من إسرائيل قد تؤدّي إلى القضاء على قسم من قوّته العسكرية وقد يستغل خصومه اللبنانيين الفرصة بما قد يهدّد هيمنته على الحياة السياسية والاقتصادية في لبنان، ولا يختلف وضع الحوثيين كثيراً لأن ضربة إسرائيلية قد تخل بالتوازن الحالي لمصلحة خصومه، لأن العدو الحقيقي للأنظمة والتنظيمات الشمولية هو شعبها نفسه مهما حاولت إنكار ذلك واختراع أعداء وهميين.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.