التحذير هنا هو أن المنطقة العربية تواجه استحقاقا كبيرا نتيجة للتحولات العالمية في أشكال الإنتاج والتحصيل والاستهلاك من شأنه أن يأتي بنتائج كارثية. وفي حين أن الإشارة إلى هذا الاستحقاق تتكرر في أكثر من محفل، فإن التيقن من حجمه وخطورته لم يبلغ بعد المستوى الكفيل بدرء الخطر. هل في الأمر تهويل؟
قبل ثلاثة عقود، مع اقتراب الألفية الجديدة، كان الانشغال بـ "النهايات". نهاية الحرب الباردة بالتأكيد، ونهاية المنظومة الاشتراكية، وكذلك نهاية الشيوعية كفكر وكعقيدة، أقلّه بالمفهوم الثوري السائد إلى يومها. بل "نهاية التاريخ" ثم "نهاية العلم"، وما يتعداهما.
بعض هذه النهايات قد تحقق، وبعضها الآخر أعيد النظر به بعد هنيهات. أي لا حصيلة واحدة موحّدة، بل التبيّن بأن أجواء الحقبة المفصلية المفترضة كان مبالغا بها وصولا إلى أن تكون مضلّلة إلى حد ما. ربما الأمر يتكرر اليوم، ليس مع "النهايات" ولكن مع "الكبائر".
حديث المحافظين المتخوفين في الغرب هو عن "الاستبدال الكبير"، أي التحول الذي قد يتسبب بانحسار المجتمعات الغربية سكانيا أمام القدوم، النظامي والعشوائي، بفوائده وأضراره، لمهاجرين من العالم الثالث يحققون الغلبة لأعراقهم وأديانهم وعاداتهم إزاء ما توصلت إليه ورست عليه هذه المجتمعات إلى أمس قريب. قد يرى المراقب الخارجي تهويلا هنا في الكلام عن استبدال كبير يُباد معه ومن خلاله العرق الأبيض، ربما. ولكنها، بالنسبة للعديدين، واقعية لا تهويل.
رغبة الرأسماليين المعولِمين هي بتحقيق "إعادة الانطلاق الكبيرة"، في أعقاب الجائحة وفي سبيل معالجة الأزمة الاقتصادية العالمية على أسس جديدة أكثر تجانسا ومركزية، وأكثر انسجاما مع العلم على ما يقال، إلى درجة أن يصل الحديث عن "ما بعد الإنسان".
في الولايات المتحدة، التناحر مؤلم وقد يزداد إيلاما بين دعاة مقولة "السرقة الكبيرة" والذين يعتبرون أن الانتخابات الرئاسية الماضية قد اختطفها التزوير في سابقة تاريخية تطيح بالنظام الجمهوري المستمر على مدى ربع ألفية من الزمن، وأصحاب الطرح المقابل "الكذبة الكبيرة"، والذين يرون أن كلام خصومهم هو عينه الغش البواح الهادف لتحوير مسار الحياة السياسية، بما يشكل انقلابا طاعنا في المبادئ التي قامت عليها البلاد.
كل هذا للتنبيه إلى أن الحديث عن "الاستحقاق الكبير" هنا، على خطورة توقعاته ومقتضياته، ليس من باب الإبلاغ عن اليقين المتحقق بالإجماع، بل من باب الاستشفاف المبني على القراءة الموضوعية التي يرجح أن تكون على صواب، مع احتمالها للخطأ. ربما التهويل واجب للتيقظ وحسب، وربما هو لازم للحقيقة الموضوعية.
لا بد لتوضيح "الاستحقاق الكبير" من استعراض أوجه الدورة الاجتماعية الاقتصادية الإنسانية العامة، وإن من باب الجمع بين النظريات المتنافسة بشأنها، وإن على قدر عالٍ من الاختزال والتبسيط. فالمعتمد وإن ضمنا هو أن الغرض من الاجتماع الإنساني، من العشيرة والجماعة وصولا إلى المجتمعات المنتظمة والدول المتشعبة بمؤسساتها، هو تحقيق الاستقرار والرخاء والتقدم، للأفراد المتوافقين على الاجتماع ثم لذريتهم. الأوجه المكونة لهذا التحقيق هي إنتاج القيمة وتحصيلها واستهلاكها. والمقصود بالقيمة هنا ما يحتاجه المرء بالضرورة وما يريده بالرغبة.
ويمكن اختصار الأشكال الأولية لإنتاج القيمة بالزراعة والصناعة والاستخراج والمعرفة. والزراعة، أي تطويع المكان، وما يضاف إليها في المصطلح المعاصر من عناصر الأمن الغذائي ثم المائي، هي طبعا أقدمها وأهمها كحاجة أولية حياتية. فيما الصناعة هي مجموع القدرات والخبرات الكفيلة بتوظيف مستدام للثروة الطبيعية، المحلية أو المستقدمة، لصالح الغرض الاجتماعي.
أما الاستخراج، من الاحتطاب إلى التنقيب الممنهج، فهو الاستفادة من الثروة الطبيعية لدعم الصناعة والاستهلاك، وهو حكما غير مستدام. فيما المعرفة، والتي تبتدئ بخدمة أشكال الانتاج الأخرى، فإنها تتجاوزها لترتقي مع التدرج الحضاري إلى رتبة تجمع بين الخادم والمخدوم. ومن مظاهرها الفكر والدين والعلم والفن.
وأشكال التحصيل الأولية يمكن اختصارها كذلك بأربعة: الاستيلاء والتجارة والضبط والاستقطاب. الشكلان الأول والثاني قديمان قدم الإنسانية. فالاستيلاء هو القائم على القوة والإكراه والقهر والاضطرار، من الغزو والفتوحات إلى التأميم والرسوم والضرائب، فيما التجارة أساسها التبادل بالتراضي والقناعة بالفائدة المشتركة.
أما الضبط، فمقامه بين أشكال التحصيل شبيه بمقام المعرفة وسط أشكال الإنتاج، أي أنه الخادم الذي يرتقي بالتدرج إلى مستوى المخدوم. هو النظام المالي الخازن أولا للقيمة المتحققة بالإنتاج بشكل وعود نقدية، قد تصدق أو ترتبك أو تكذب، من خلال العملة المتوافق عليها، ثم المقايض لمخاطر الإنتاج وآماله عبر أسواق الأوراق المالية وعقود التأمين وغيرها من الأدوات.
أما الاستقطاب، ومنه الحج والزيارات الدينية والسياحة والابتعاث التعليمي والسفر للعلاج، فيكاد أن يكون تجارة غير متجانسة فيما يترتب عنه من نقل طوعي للقيمة المادية لأحد الطرفين مقابل فائدة معنوية يحصّلها للطرف الآخر.
أشكال الإنتاج والتحصيل وما يترتب عنها من أشكال التوزيع والاستهلاك، هي المقومات التي تعتمدها الدول والمجتمعات، بمقادير مختلفة تحكمها قدرتها عليها وما يتيحه لها محيطها الطبيعي وجوارها السياسي. أي، والكلام من تحصيل الحاصل، الزراعة معتمدة حيث الزراعة ممكنة، والصناعة شروطها توفّر المواد الأولية بالإضافة إلى البنى التحتية والخبرات والتأطير الأمني.
على مدى تاريخ معظم المحيط العربي، لم تكن الزراعة غائبة، بل كانت هي أساس الإنتاج في أكثر من موقع، وإن اختلفت أساليب الري، مع بقائها تحت سقف الاستهلاك الذاتي. أما الصناعة، والتي استعارت بصيغتها المتجاوزة للحرفية التقليدية التقنيات الغربية بالنسيج في القرن التاسع عشر مثلا، فإنها بقيت محدودة بصعوبة توفّر المعطيات الموضوعية، بالمقارنة مع ما كان قد سبقها في الغرب، فكانت عرضة للمنافسة القاصمة أو المكبّلة، واللاغية لإمكانية الاعتماد عليها لتراكم فعلي للقيمة.
هي شحّة تاريخية في الإنتاج الزراعي ثم الصناعي، وبالتالي تقييد متواصل للتجارة المصدرية كشكل أولي للتحصيل. ورغم إمكانية انتشال بعض الاستثناءات الموضعية حيث كان للتجارة دورا ملموسا بالتحصيل، وجلّ هذه الاستثناءات من التجارة الوسيطية، فإن قيام الدول السلطانية في المنطقة اعتمد أولا وأساسا على الشكل الاستيلائي لتحصيل القيمة.
أي أن القيمة تراكمت بالغزوات والفتوحات. ويوم وصل الغزو أو الفتح إلى حدّه الأقصى، ابتدأ التراجع والتآكل. هذا كان حال الخلافة الراشدة ثم الأموية، والدولة العباسية والفاطمية والعثمانية، وما جاورها من الدول. وإذا نجح المماليك، في ظرف تاريخي معيّن، من قدر أكبر من الاعتماد على التجارة الوسيطية، فإن رحلات الاكتشاف التي قام بها الغربيون سرعان ما تجاوزت هذا النجاح المؤقت.
يُحمّل الدين الإسلامي، في العديد من الطروحات التفسيرية لتوالي الدول السلطانية الاستيلائية، مسؤولية تغييب أشكال الإنتاج التي تتيح تراكم القيمة محليا وتفتح الأبواب أمام التجارة المصدرية لمضاعفتها.
فالفرائض الإسلامية تعترض تراكم رأس المال. والفروض الإسلامية المستفاضة تستهلك الطاقة الإنتاجية أو تستدعيها بعيدا عن إمكانية توظيفها في الزراعة ثم في الصناعة مثلاً.
على أن هذه القراءة تنضوي على الإجحاف، بل ربما على التجني، في إهمال جانبين ينقضانها، الأول هو أنه في معظم الحالات ليس الدين ما يعترض زخم الزراعة ثم الصناعة، بل إن هذا الزخم محدود بالعوامل الموضوعية أساسا، والدين يملأ الفراغ الذي تتركه هذه المحدودية.
والثاني هو أن الدين يرعى الإنتاج المعرفي (بالمضمون الديني طبعا) وينشط بالتالي التحصيل الاستقطابي، والمثال الأول على ذلك هو الحج، وما شكلّه من نقل طوعي للقيمة ومن محرك هائل بنتائج تمكينية على مستويات مختلفة.
بعيدا عن هذا الجدل، يبقى أن الظروف الموضوعية لتوالي الدول الإسلامية فرضت عليه شحة في الإنتاج الزراعي ثم الصناعي، ووجهتها يوم كانت قادرة إلى التحصيل الاستيلائي، مع بعض حالات التجارة الوسيطية.
لم يكن المحيط العربي، كوريث للدول الإسلامية المركزية، قادرا منذ منتصف القرن الماضي على محاكاة الغرب في توظيفه للقيمة المتراكمة لرفع المستوى المعيشي لأهله لولا جني ثمار التنقيب. النفط، كما الغاز والفوسفات أتاحت المجال أمام تراكم غير مسبوق للقيمة انتقلت معه بعض الدول، ولا سيما دول الخليج العربية، إلى أقدار من المجاراة ثم التفوق على الغرب في التسهيلات الحياتية. ولا بد من الإشارة إلى أهمية أصداء هذه الوفرة، من خلال العمالة الوافدة والمساهمات المباشرة، على تمكين سائر دول المحيط العربي.
لا بل صاحَبَ الوفرة المستجدة تعزيز لإلقاء تشبيه الأسرة على الدولة، حيث الحاكم هو الوالد والمواطن هو الولد، بما يخدم الطرفين. الدولة العربية، بالإجمال، أبوية قائمة على الهيبة المستمدة من مشروعية عناصرها المختلفة وفق الدولة المعنية الدين أو النسب أو الولاء أو الحدث الثوري، والترغيب والترهيب. كما الأسرة، الدولة ريعية من حيث المبدأ وإن تعذّر الأمر عليها فعليا في حالات الدول المفتقدة للثروات الطبيعية.
الدولة مطالبة بالرعاية، بل بالوصاية، بالتعليم والطبابة والوظيفة والتقاعد، كتوقعات تلقائية، ليس على أساس نجاح المجتمع بتراكم القيمة تاريخيا بما يحقق التداول بين الأجيال، كما هو الحال في الدول التي تعتمد نظام عناية أو رعاية في الغرب، بل على أساس المشاركة بالثروة المفترضة للدولة الأبوية.
"الاستحقاق الكبير" هو أن هذا الوضع القائم على الاستفادة من تراكم القيمة والمدخول نتيجة الاستخراج يقترب من نهايته. النضوب المرتقب والذي يطال كافة المجتمعات والدول التي تعتمد على وجه من أوجه الثروة الطبيعية هو العامل الأول ولكنه ليس الوحيد.
التحولات في مضامين الإنتاج والتوزيع والاستهلاك على مستوى العالم تلتقي وتتضافر في هذا القرن الحادي والعشرين، بما من شأنه أن ينعكس سلبيا على ما تحقّق للعديد من الدول والمجتمعات من استقرار ورخاء.
العديد من دول المنطقة تبدي أقدارا من الإدراك لهذا الواقع الخطير. ثمة مساعٍ واضحة ونجاحات محدودة لدول الخليج تحديدا بأقدار من التفكير المستقبلي. والمقياس الأول، دون أن يكون كافيا على الإطلاق، هو صناديقها السيادية، حجمها وكيفية توظيفها. في إحدى الحالات، يبدو الوعي مرتفعا ولكنه يأتي مشوبا بخطوات هي أقرب إلى المغامرة والمقامرة منها إلى الحل الوطيد.
صار من فائق الصعوبة إنكار حقيقة أن الاستحقاق الكبير قادم لا محالة. والأصح الإقرار به. فإن تم ترصّده واستباقه بنجاعة ونجاح، قد تتمكن الدول المعنية والمحيط العربي ككل من المضي قدما. أما إذا جرى إهماله، أو اعترى الفشل مواجهته، فإن الأمر على خطورة غير مسبوقة.
في الجزء التالي كلام حول احتمالات المواجهة والمعالجة.