دموع الساحرات/السحرة في سلفيات البكاء
دموع الساحرات/السحرة في سلفيات البكاء

لا أذكر المرة الأولى التي نفرت بها الدموع من عيني.  لا أذكر إن هبطت الدمعة الأولى من عيني اليمين أو من عيني اليسار، صباحاً أو مساءاً أو أثناء مشيي مستلقية في جنازة محتدمة في أحد الأحلام/الكوابيس. لا أذكر إن استخدمت محرمة بيضاء أو طرف كمي أو ابقيتها خطً شفيفاً مستقيماً على وجنتي. 

أعلم أنها هبطت نزولاً، ولم تصعد إلى السقف، إلى أن اعتادت مصيرها المتدني. ذرفت دموعي في وقت ومكان يصعب تحديده. لا أتذكر. أذكر الدهشة من اكتشاف أن ذرف الدموع يترافق مع لعقه بطرف اللسان وأن ملوحته تعدل من هرمونات الجسد. أذكر يقيناً، أن بعد المرة الأولى لم أعرف كيف أتوقف، أصبت بحمى النسيان، وذرف الدموع عشوائياً. 

مؤخراً، أفكر كثيرًا في البكاء: لماذا نبكي؟ وكيف نبكي؟ وأين نبكي؟ ومتى نبكي؟ بشكل أكثر تحديداً، أعتقد أنني أفكر في البكاء كأداء منتشرة حالياً بشكل فج و باستسهلال أكثر من ذي قبل في المساحات الرقمية والفضاءات السايبيرية.

ليس البكاء في حد ذاته بقدر ما هو مونتاج مراحل البكاء، أي فتح كاميرا الموبايل، الضغط على تطبيق الكاميرا، ثم تسجيل، تعديل، تحرير، ونشر المنتج النهائي على الصفحة الشخصية وانتظار ردود الفعل التفاعلية، والاستجابة لها من الطرف الباكي على السواء. 

البكاء استجابة حرجة. البكاء مناورة. الطريقة التي قد يقول بها المؤلف أن الشخصية تحبس أنفاسها أو تلتقط أظافرها أو تقلب شعرها فوق كتفها، مجموعة من الأفعال الملحوظة التي نربطها بحالة عاطفية معينة. ما أقوله، أو أحاول قوله، هو أنني أفكر كثيرًا في الطبيعة الأدائية لسلفيات ومقاطع الفيديو ذات المحتوى البكائي على الإنترنت. هل هي  استجابة طبيعية لتفاعلنا افتراضياً أم مجرد محتوى كأي محتوى آخر، يطفو بلا جدوى في العالم الأبدي؟ ما الذي يجب قوله عندما ينفجر أحدهم من البكاء والحماسة خلال الدقائق الخمس الأولى لبدء حلقة من Game of thrones؟ أو عندما نرى حيواناً لطيفاً يؤدي سلوكاً يحاكي فيه السلوك البشري؟ 

مفهوم السلفي أو تسجيل نشاطات الذات وتوثيقها، لم يعد محصور في التقاط حالات ذاتية توثق فقط لحظات السعادة أو حدث جميل مع ابتسامات مشرقة، لكن تجاوز مفهوم السعادة والتألق المبالغ في إظهاره إلى تسجيلات ذاتية للحظات بكاء وانهيارات عاطفية ونفسية، سواء أكان الأمر متعلق بانفصال عاطفي أو رحلة شفاء من صدمات طفولة غير محلولة، أو العجز أمام التعامل مع اضرابات ما بعد الصدمة الخ من الأزمات النفسية، وعرضها للمتابعين/الجمهور/ المعجبين أو لنقل سكان العالم السيبراني كمنتج تفاعلي. 

من الممكن أن الشخص الذي ينشر صورة شخصية شديدة الخصوصية العاطفية أو مقطع فيديو لحالته الباكية يرغب بخلق ارتباط أكبر مع الآخرين من خلال كونه أكثر انفتاحًا وشفافية في تقديم ذاته الافتراضية. لا شك بأن صانع المحتوى البكائي، قد يستفيد من التعبير عن مشاعره من خلال الدعم أو تشابه التجربة مع تجارب المتفاعلين. و بطبيعة الحال وكما هو متدوال وشائع، قد يفتح أيضاً مجال لا منتهي من التنمر أو السخرية والتشكيك بمصداقية المحتوى والاتهامات المتعلقة بجذب الاهتمام لمجرد الجذب من الغرباء واصطياد الاعجابات. 

مهما كانت النتيجة، فإن الدافع لمشاركة أكثر لحظاتنا ضعفاً مع سكان العالم السيبراني هو البحث حول وماوراء التغييرات والتجديدات التي طرأت على المجتمعات البشرية بعد أن أصبح عالمنا الافتراضي هو عالمنا الحقيقي أو مكملاً له بشكل أو بآخر. المثير للاهتمام التعليقات الواصفة فعل البكاء بصفة الـ"كرينغ"؟ (cring). هل البكاء حالة شديدة الخصوصية والحساسية بينما مشاركة لحظات السعادة عامة ومقبولة ومألوفة؟ لماذا من المقبول مشاهدة أشخاص ينتحبون وينهارون في الأفلام والمسلسلات على الرغم من أن الجميع يعلم أنه بيرفورمانس ومحاكاة تمثيلية للواقع أي إيهام مدفوع الأجر، لكن يتم الانتقاد وبشدة ذات المشاهد لأشخاص "حقيقيين" يبكون من منصاتهم الشخصية؟ ينهارون على أحداث فعلية من يومياتهم في "الواقع"؟ هل السياق مختلف؟

هل سلفيات السعادة وإعلان الإنجازات الشخصية مقبولة أكثر للتفاعل والتداول بنسبة تتجاوز سلفيات البكاء والانهيارات النفسية؟ بالنسبة لي، يبدو هذا الفعل حقيقة خطيرة وحيدة ومشوهة. لا رغبة لي هنا في التقليل أو السخرية من أولئك الذين ينشرون دموعهم افتراضياً، في حين أن بعض المجتمعات تتسم بعزلة تفوق غيرها فيجد البعض نفسه منهاراً أمام شاشة هاتفه. 

ربما ينبغي النظر إلى سلفيات البكاء الافتراضية على أنها النسخة الإلكترونية من كتف نبكي عليه. سلفيات البكاء مثال على كيفية تغيير التكنولوجيا للسلوك البشري، للدقة نحن على حافة حدود جديدة في علاقاتنا مع العالم الافتراضي.

في الوقت الحالي، يبدو الفضاء السيبراني  منفصلاً عنا ويمكن تحديده والإشارة له، ولكن قريبا سيصبح هذا التمييز غير واضح. ما نحتاج إلى التفكير فيه هو ما إذا "كنا" في المستقبل نريد أن تحل هذه المجتمعات الافتراضية محل الأكتاف المادية التي نلجأ إليها تقليدياً. أخيراً، هل ستبكي الكائنات المطاطية والآلية؟ أم أن دموعها ستكون من حديد وبكسلز وتيتانيوم؟
 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.