سوري
الزلزال الذي حدث في كل من تركيا وسوريا هذا الأسبوع، كان عنوان مأساة جديدة يقف أمامها المرء عاجزا مشلولا

إحساس العجز أمام أوجاع السوريين واليمنيين يسكن الكثيرين منذ سنوات.. منذ أن انطلقت هذه الكوارث السياسية التي تدمر حياة الملايين، أحياءً، وترسل الآلاف منهم للعالم الآخر. 

لكن الزلزال الذي حدث في كل من تركيا وسوريا هذا الأسبوع، كان عنوان مأساة جديدة يقف أمامها المرء عاجزا مشلولا.

بداية، لا يسعنا إلا أن نقتسم مشاعر التعازي والمواساة مع الشعبين السوري والتركي، وأن نعتذر لهم من القلب، وبصدق، لوقوفنا عاجزين أمام هول هذه المأساة الإنسانية. 

كنت، خلال الأيام الأولى للكارثة، أتابع بعض التفاصيل الموجعة على حسابات الأصدقاء السوريين وأصدقاء من جنسيات مختلفة مقيمين بتركيا. لم أستطع حتى أن أتخيل نفسي في موضع الضحايا وعائلاتهم. لم أستطع حتى أن أتخيل وجع السوريين البعيدين في المنافي القصية، وهم يتابعون أخبار موت أقاربهم وجيرانهم وأصدقائهم. كيف يكون القدر غير منصف لهذا الحد؟ أبعدَ الحربِ والتقتيل، يأتي الزلزال ليكمل بقية الوجع والقتل والظلم؟  

لكن الحرب والكوارث الطبيعية لا تكفي في رقعنا الجغرافية. لا بد أن يكتمل المشهد بكثير من الجهل ومن القسوة ومن العنف، حتى نكون أوفياء لتخلفنا المزمن! 

في عدد من التعليقات لمواطنين عاديين، لكن أيضا لمن يسمون أنفسهم "رجال الدين"، المتحدثون باسم السماء، قرأنا وسمعنا آيات قرآنية تبرر الزلزال وتفسره! قرأنا وسمعنا مذهولين مصدومين عبارات من قبيل: "إن الله يعاقب الأتراك لأنهم علمانيون". "إن الله يعاقب الناس بالزلازل والبراكين والأعاصير لأنهم مذنبون". "إن الله يعاقب الخطائين ليريهم علاماته"، وهلم تخلفا وجهلا... وقسوة! 

كيف يمكنك أن تشاهد صور الدمار والناس الذين ضاع أهلهم والأطفال الذين فقدوا حياتهم أو فقدوا أسرهم، وأن تكتفي بتعليق أو تبرير يطفح منه الظلم والقسوة والجهل، بكل هذه الكميات المهولة؟ 

لنوجه سؤالا بسيطا لحملة خطاب الكراهية والجهل هذا، والذين، حتى وهم يقدمون لك العزاء، لا يترددون في نشر سموم جهلهم: هل يفرق الزلزال بين المؤمنين المتدينين وبين الملحدين أو "الخطائين" أو الأشرار بشكل عام؟ هل يختار الزلزال "المذنبين" ويجنب "الصالحين"؟ هل تميز الكوارث الطبيعية بين "المحسنين" وبين "الخطائين"؟ هل تختار الكوارث الطبيعية كنيسة أو مسجدا أو معبدا بوذيا لتحميهم، بينما تعرض بيوت الضالين والكفار لغضبها حتى تبلغهم غضب الرب؟ 

ثم، ما ذنب الأطفال والرضع والحمقى، مادام الله، يفترض ألا يحاسبهم؟ ما ذنب أي شخص، مهما كانت أخطاؤه ومعاصيه، حتى ينام في ليلة معينة، بأحلامه أو أحزانه وبرامجه اليومية وتطلعاته، لكي يموت مدفونا أو لكي يعيش ويفقد كل ما يملك... وكل من يحب؟ أي قسوة يجب أن تكون في قلب الشخص لكي يتصور أن هناك من، بسبب خطاياه، يستحق كل هذا الوجع؟ 

ثم، وبلغة العلم والعقل، ألم تكن الزلازل والبراكين والأعاصير وكل الظواهر الطبيعية موجودة حتى قبل أن يوجد الإنسان على وجه الأرض؟ فهل كان الله يعاقب الديناصورات الخطاءة؟ أم أنها كانت أشكال عقاب تجريبية يجهزها الله قبل أن يكون الإنسان، أساسا؟ 

رجاء.. كفوا عن الحديث باسم الله. كفوا عن تحديد الخطائين والصالحين ومن يعاقبهم الله ومن يهديهم. كفوا عن نشر سموم الجهل والكراهية، حتى أمام مآسي الغير!

أمام الكوارث الطبيعية وأمام الحروب المدمرة. أمام كل المآسي الإنسانية، لا شيء مطلوب منا غير الدعم الإنساني للضحايا وأسرهم، والدعم المادي لمن استطاع إلى ذلك سبيلا. 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.