شاهدت مؤخرا وفي يوم واحد فيلمين لا يجمعها رابط إلا "الدين" في محور الفيلم، والكوميديا التي اختلفت نوعيتها في كل فيلم، الفيلمان مختلفان في كل شيء بعد ذلك.
أحدهما مدته 15 دقيقة، والثاني مدته 120 دقيقة، الأول القصير إنتاج مستقل والثاني من إنتاج هوليوود، والقصير نجومه غير معروفين عالميا والثاني أبطاله نجوم في عالم الترفيه الأميركي.
الفيلم القصير والمستقل بنجومه غير المعروفين كان "السلام عليك يا مريم" للمخرج البريطاني الفلسطيني باسل خليل، وهو ابن الناصرة، والثاني حمل عنوان "You People" وأقرب ترجمة رديفة لها "أنتم يا تلك الفئة من الناس".
كان الإبداع، برأيي الشخصي، مكثفا أكثر في الفيلم القصير وخلال ربع ساعة استطاع خليل أن يضعنا في منطقة الحياد البيضاء لنشاهد حكاية قصيرة جدا جمعت في مشاهدها المتلاحقة والمطبوخة على نار هادئة خمس راهبات كاثوليكيات في دير ناءٍ وبعيد عن كل ما يحدث من ضجيج وعنف وعبث في ميدان الصراع الفلسطيني الإسرائيلي مقابل ثلاثة مستوطنين يهود من إسرائيل (رجل وزوجته ووالدته).
قرأت ما تيسر لي من قراءات عن فيلم الربع ساعة خصوصا أنه كان أحد الأفلام المرشحة للأوسكار، في عام ٢٠١٦، لأجد المحتوى العربي، وكالعادة، يريد تقديم وجبة مباشرة من خطاب المقاومة للاحتلال الإسرائيلي، ويغمز من قناة مخرج الفيلم، وهو ابن الناصرة، أنه قام بتحييد فكرة الاحتلال الإسرائيلي بمنهجية واضحة، ولم يذكر شيئا عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
من زاوية رؤيتي للفيلم، أعتقد أنه كان نموذجيا في تقديم الصراع كخلفية للحكاية، وفي تفاصيل بسيطة مرت في الحوار والقصة، لكنها ستترك خلفها أسئلة كثيرة وعميقة لدى المشاهد الغربي تحديدا.
أحد المشاهد التي لا يمكن المرور عنها دون تأمل رغم أنها صيغت بأداء كوميدي لطيف، كان تلك اللحظة التي طلب فيها المستوطن من الراهبة الاتصال بمكتب تاكسي لينقذهم من الموقف، فرفض التحدث مع مكتب يملكه عرب، غير تذمر الزوجة المتكرر من زوجها بأن ما حصل معهم من حادث "انقطاع في الطريق" كان بسبب أنه سلك الشارع الذي يسلكه العرب.
الفكرة الأكثر عمقا ولم تكن على السطح، من وجهة نظري، أن حالة المستوطن تحولت إلى حالة لجوء "إنساني" في دير كاثوليكي تحديدا!
الرمزية العميقة في تلك الأرض التي تحدث فيها أحداث الفيلم والزمان المنتقى كيوم سبت مقدس عند اليهود، كان في التصوير الرمزي لتمثال السيدة العذراء وهي في المحصّلة والواقع التاريخي مواطنة ناصرية في عهد الاحتلال الروماني.
الفيلم، وبسخرية لا تجرح وبدون إسفاف، تهكم من العصبوية والتطرف في الطقوس الدينية، فالراهبات تحت نذور الصمت المطلق، واليهود اللاجئين للدير تحت عصمة يوم السبت، لكن وببراعة في البناء المشهدي استطاع باسل خليل أن يوصل فكرة شيقة وطريفة مفادها أن كل طرف كان يرى في التخلص من البقاء في نفس المكان والزمان مع الطرف الآخر أولوية أهم من التشدد في النذور وعصمة السبت.
الفيلم سينمائي بامتياز، ومدته مناسبة لسرد تلك القصة القصيرة، واستطاع أن يطرح أسئلة كثيرة في عمق الصراع من وجهة نظر إنسانية "تجلت تلك الإنسانية في الراهبة الصغيرة التي حركت كل الأحداث".
في المقابل، وأمام فيلم يقود البطولة فيه مخضرم هوليودي مثل "إيدي ميرفي" فإن "You People" كان فيلما ترفيهيا مسليا لا أكثر، والمحاولة اليائسة فيه، وربما لم يحاول أحد أصلا، أن يوصل فكرة التعايش بين الأديان (وفي الفيلم كان الحوار بين إسلام ويهودية).
لكن الفكرة كانت ساذجة على مستوى الطرح، وفي تفاصيل الطقوس والشعائر كان هناك فهم قاصر للإسلام كعقيدة ودين، وما تم أخذه كنموذج كان تلك النسخة المستحدثة لطائفة "أمة الإسلام" التي أسسها الأميركي ذو الأصل الأفريقي، لويس فرخان، وهي نسخة معدلة بالكامل للعقيدة الإسلامية يكاد "فرخان" نفسه يكون نبيها بلا منازع.
الفيلم لم يترك أسئلة بقدر ما ترك تضليلا لمشاهد لا يعرف شيئا عن "صراع الحضارات" في عمقه الحقيقي، وهو ما يتطلب طبعا أكثر من فيلم سينمائي كوميدي يطرح حكاية حب بين رجل أبيض وفتاة سمراء، والتجاذبات بين عائلته اليهودية "الليبرالية والمحافظة في آن" وعائلتها "المسلمة" لأن الأب قرر التحول إلى "أمة الإسلام" في مطلع شبابه.
الفيلم الأميركي قادر بحكم الخبرة في النصوص الهوليودية بخلق المفارقات أن يجترح الضحك والتسلية، لكنه لن يترك أثرا بقدر ما سيترك علامات فارقة من معلومات غير صحيحة تتراكم فوق ما سبقها من معلومات تقدمها السينما الهوليودية باستمرار.
مما يجعل "ربع ساعة" باسل خليل أكثر ثراءا، ولطفا وخفة دم تطبع في وجدان المشاهد عديد الأسئلة المطلوب طرحها، بدون فجاجة ولا مباشرة ولا خطب إنشائية بلغة خشبية ضجر منها الجميع.