ملصق للفيلم من حساب الفيسبوك المخصص له
"الفيلم، وبسخرية لا تجرح وبدون إسفاف، تهكم من العصبوية والتطرف في الطقوس الدينية" | Source: facebook.com/avemariafilm

شاهدت مؤخرا وفي يوم واحد فيلمين لا يجمعها رابط إلا "الدين" في محور الفيلم، والكوميديا التي اختلفت نوعيتها في كل فيلم، الفيلمان مختلفان في كل شيء بعد ذلك. 

أحدهما مدته 15 دقيقة، والثاني مدته 120 دقيقة، الأول القصير إنتاج مستقل والثاني من إنتاج هوليوود، والقصير نجومه غير معروفين عالميا والثاني أبطاله نجوم في عالم الترفيه الأميركي. 

الفيلم القصير والمستقل بنجومه غير المعروفين كان "السلام عليك يا مريم" للمخرج البريطاني الفلسطيني باسل خليل، وهو ابن الناصرة، والثاني حمل عنوان "You People" وأقرب ترجمة رديفة لها "أنتم يا تلك الفئة من الناس". 

كان الإبداع، برأيي الشخصي، مكثفا أكثر في الفيلم القصير وخلال ربع ساعة استطاع خليل أن يضعنا في منطقة الحياد البيضاء لنشاهد حكاية قصيرة جدا جمعت في مشاهدها المتلاحقة والمطبوخة على نار هادئة خمس راهبات كاثوليكيات في دير ناءٍ وبعيد عن كل ما يحدث من ضجيج وعنف وعبث في ميدان الصراع الفلسطيني الإسرائيلي مقابل ثلاثة مستوطنين يهود من إسرائيل (رجل وزوجته ووالدته). 

قرأت ما تيسر لي من قراءات عن فيلم الربع ساعة خصوصا أنه كان أحد الأفلام المرشحة للأوسكار، في عام ٢٠١٦، لأجد المحتوى العربي، وكالعادة، يريد تقديم وجبة مباشرة من خطاب المقاومة للاحتلال الإسرائيلي، ويغمز من قناة مخرج الفيلم، وهو ابن الناصرة، أنه قام بتحييد فكرة الاحتلال الإسرائيلي بمنهجية واضحة، ولم يذكر شيئا عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. 

من زاوية رؤيتي للفيلم، أعتقد أنه كان نموذجيا في تقديم الصراع كخلفية للحكاية، وفي تفاصيل بسيطة مرت في الحوار والقصة، لكنها ستترك خلفها أسئلة كثيرة وعميقة لدى المشاهد الغربي تحديدا. 

أحد المشاهد التي لا يمكن المرور عنها دون تأمل رغم أنها صيغت بأداء كوميدي لطيف، كان تلك اللحظة التي طلب فيها المستوطن من الراهبة الاتصال بمكتب تاكسي لينقذهم من الموقف، فرفض التحدث مع مكتب يملكه عرب، غير تذمر الزوجة المتكرر من زوجها بأن ما حصل معهم من حادث "انقطاع في الطريق" كان بسبب أنه سلك الشارع الذي يسلكه العرب.

الفكرة الأكثر عمقا ولم تكن على السطح، من وجهة نظري، أن حالة المستوطن تحولت إلى حالة لجوء "إنساني" في دير كاثوليكي تحديدا! 

الرمزية العميقة في تلك الأرض التي تحدث فيها أحداث الفيلم والزمان المنتقى كيوم سبت مقدس عند اليهود، كان في التصوير الرمزي لتمثال السيدة العذراء وهي في المحصّلة والواقع التاريخي مواطنة ناصرية في عهد الاحتلال الروماني. 

الفيلم، وبسخرية لا تجرح وبدون إسفاف، تهكم من العصبوية والتطرف في الطقوس الدينية، فالراهبات تحت نذور الصمت المطلق، واليهود اللاجئين للدير تحت عصمة يوم السبت، لكن وببراعة في البناء المشهدي استطاع باسل خليل أن يوصل فكرة شيقة وطريفة مفادها أن كل طرف كان يرى في التخلص من البقاء في نفس المكان والزمان مع الطرف الآخر أولوية أهم من التشدد في النذور وعصمة السبت. 

الفيلم سينمائي بامتياز، ومدته مناسبة لسرد تلك القصة القصيرة، واستطاع أن يطرح أسئلة كثيرة في عمق الصراع من وجهة نظر إنسانية "تجلت تلك الإنسانية في الراهبة الصغيرة التي حركت كل الأحداث". 

في المقابل، وأمام فيلم يقود البطولة فيه مخضرم هوليودي مثل "إيدي ميرفي" فإن "You People" كان فيلما ترفيهيا مسليا لا أكثر، والمحاولة اليائسة فيه، وربما لم يحاول أحد أصلا، أن يوصل فكرة التعايش بين الأديان (وفي الفيلم كان الحوار بين إسلام ويهودية).

لكن الفكرة كانت ساذجة على مستوى الطرح، وفي تفاصيل الطقوس والشعائر كان هناك فهم قاصر للإسلام كعقيدة ودين، وما تم أخذه كنموذج كان تلك النسخة المستحدثة لطائفة "أمة الإسلام" التي أسسها الأميركي ذو الأصل الأفريقي، لويس فرخان، وهي نسخة معدلة بالكامل للعقيدة الإسلامية يكاد "فرخان" نفسه يكون نبيها بلا منازع. 

الفيلم لم يترك أسئلة بقدر ما ترك تضليلا لمشاهد لا يعرف شيئا عن "صراع الحضارات" في عمقه الحقيقي، وهو ما يتطلب طبعا أكثر من فيلم سينمائي كوميدي يطرح حكاية حب بين رجل أبيض وفتاة سمراء، والتجاذبات بين عائلته اليهودية "الليبرالية والمحافظة في آن" وعائلتها "المسلمة" لأن الأب قرر التحول إلى "أمة الإسلام" في مطلع شبابه. 

الفيلم الأميركي قادر بحكم الخبرة في النصوص الهوليودية بخلق المفارقات أن يجترح الضحك والتسلية، لكنه لن يترك أثرا بقدر ما سيترك علامات فارقة من معلومات غير صحيحة تتراكم فوق ما سبقها من معلومات تقدمها السينما الهوليودية باستمرار. 

مما يجعل "ربع ساعة" باسل خليل أكثر ثراءا، ولطفا وخفة دم تطبع في وجدان المشاهد عديد الأسئلة المطلوب طرحها، بدون فجاجة ولا مباشرة ولا خطب إنشائية بلغة خشبية ضجر منها الجميع. 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.