الإنسان أو الكائن الخرافي
الإنسان أو الكائن الخرافي

اعتاد الفلاسفةُ والمفكرون منذ فجر تاريخ الفكر البشري على وصف "الإنسان" بأنه "حيوان عاقل"؛ من جهة اعتبار أنه الكائن الأكثر استخداما لعقله (= كَمّاً)، والأشد معقولية في هذا الاستخدام (= كَيْفاً). وحتى مَن وَصَفَه تعريفاً بأنه (حيوان ناطق)؛ فإنما أراد الدلالة على العقل من خلال كون النُّطْق الإنساني صورةَ العقلِ الظاهرة: منطقية النطق/ الكلام بنسبة ما؛ وإلا فَكُلُّ حيوان يصدح بصوت ما. بل حتى أولئك الذين وَصَفوا الإنسان بأنه (حيوان سياسي)؛ إنما أرادوا الدلالة على العقل من خلال أحَد أهَم وأوضح مظاهر التدبير العقلي العام الذي يقوم على التَّبَصّر بعناصر الفعل الواقعي، والموازنة بينها، وتَسْبيب مُتَوالِياتها، وتوقّع مآلاتها...إلخ فعاليات التدبير السياسي. 

هل الإنسان مُنْحَازٌ لِنَفْسِه عندما يحتكر صفة "العقل" للنوع الإنساني خاصة ؟ الكتابات البشرية منذ بداياتها الأولى، وإلى يومنا هذا، تُؤكِّد على هذا الانحياز اللاَّمعقول. الإنسان يضع نفسه على أعلى هَرَم المعقولية بلا تردّد، وبدعوى المعقولية ذاتها. هذا في حال تواضعه، وقبوله أن يكون لبعض الكائنات الأخرى مستوى ما من المعقولية النسبية. وأما في أغلب الأحوال، أي عندما لا يتواضع كثيرا، فهو يضع نفسه على أعلى هرم المعقولية، محتفظا بكل مستويات هذا الهرم لبني جنسه احتكارا، ولا حَظَّ لغيره إلا الغرائزي والأهوائي والعَضَلي، أي المادي الحيواني الآلي أو شبه الآلي، الذي إن تَوَفَّر على ذكاء محدود؛ فليس إلا ذكاءً  آليا يتحوّل في كثير من الأحيان إلى محض غباء قد يقود بعض فصائل هذا النوع الحيواني إلى الانقراض. 

اليوم، رغم تطوّرـ بل وتنوّع ـ صفةِ المعقولية، وُصُولاً إلى تفكيكها؛  فإن أحد أشهر المؤلفين المعاصرين/ يوفال نوح هراري، عندما أراد كتابة تاريخ للنوع البشري، لم يتردّد في وصف إنسان هذا النوع بـ"العاقل"، وأن يكون هذا عنوان كتابه؛ وكأن لا عاقلَ إلا هو؛ أو كأن العقلَ أبرزُ صفاته وأشدّها تمييزا له، بينما التاريخ البشري يسخر، ويُسَجّل اعتراضاتِه الضّمنية على هذا التمييز الحاد ذي الطابع الاحتكاري.  

طبعا، لا يعني هذا أن النوع البشري لا يَتوفّر على "عقلانية ما"، سمحت له بأن يخطو في سبيل التطوّر خطواتٍ واسعةً مكّنته من السيطرة على بقية فصائل النوع الحيواني، هذا النوع الذي لا يتجاوز الإنسان ذاته أن يكون تفريعا عليه بصورة ما. 

الإنسان بلا شك، أكثر معقولية من سائر أنواع المشترك الحيواني؛ على اعتبار أن "العقلانيات" رغم تطوّرها باستمرار، ورغم تنوعّها الثري، تُشير ـ في خطوطها الرئيسة ـ إلى نواة المعنى العقلاني الكامن وراء هذا التطوّر وهذا التنوع، أقصد أنها تعني في قواسمها المشتركة: "التفكير الواقعي المنظّم"، حيث يجري ترتيب/ تنظيم المعرفة البشرية وتَسْبيبها وتنسيبها على ضوء مُعْطَيات الوقائع المادية التي تُكوِّن نقطة البداية دائما، دون أن تكون المرجع النهائي في كل الأحوال.  

عموما، لا بد من التأكيد على أن هذا الاعتراف بالقابلية العقلانية للإنسان، لا يعني أنه "عاقل بالكامل"، ولا أنه "عاقل في كل الأحوال"، بل ولا أن أغلبية النوع الإنساني "عقلاء في أغلب الأحوال"؛ ولو على سبيل التَّعقّل النّسبي. الإنسان ـ في أفضل أحواله ـ عاقل بدرجة ما، بينما هو ـ في الوقت ذاته ـ يعيش دائما على شَفَا جُرُفِ الأهوائي والغرائزي والعبثي، ويعيش غالبا على شَفَا جُرُفِ التوحش الهمجي. بل حتى هذا الوصف الذي يُقَرِّر "العقلانية النسبية المهزوزة" هو وَصْفٌ مُتَحَقِّقٌ بالنسبة للشريحة المحدودة من كل مجتمع إنساني مُتطوّر؛ وبالتأكيد هو يَضْمُر ويَضِيق ـ نِسْبَةً وتَناسباً ـ مع رُسُوخ ظاهرة التخلّف، ومع شموليتها، كقاعدة عامة في كل مظاهر التجمّع الإنساني.  

إن هذه النخبة العقلانية التي قادت حركة التطور البشري ليست هي صورة الواقع البشري، ليست صورته في حقيقته الأشد رسوخا والأوسع شمولا. فهذه "النخبة العاقلة" ليست إلا الانحراف الاستثنائي الإيجابي عن النسق العام لظاهرة النوع الإنساني المحكوم بدوافع غير عقلية بالأساس.  

الإنسان قبل أن يكون كائنا عاقلا، ودون أن يكون كائنا عاقلا، هو كائن خرافي بالأصالة، قبل كل شيء، وبعد كل شيء. وكونه كائنا خرافيا بالأصالة، يعني أنه دائما في حالة تَنافُرٍ حَادٍّ مع مسارات التعقّل كافة. وما يقبله من هذه المسارات فإنما يقبله تحت ظرف استثنائي خاص، ولهدف استثنائي خاص، وغالبا ما يكون هذا القبول الحَرِج التِفافاً على التعقّل ذاته؛ لصالح منحِ مسارات الخُرَافة فرصةَ الظّفرِ بالمشروعية، ومن ثَمَّ الانتشار على أوسع نطاق.  

إن الإنسان ـ بطبعه من حيث هو إنسان ـ يبتهج غاية الابتهاج بالخرافة، وينتشي غاية الانتشاء بالأوهام، ويحترم ـ بدرجة التقديس ـ متاهاتِ الأسرار وعوالمَ الغموض، ويَثِق ـ بدرجة التسليم الكامل ـ بالخُرَافيّين والعُصَابيين والمُتطرفين والمُتَعصِّبين والزعماء الغوغائيين. إنه يجد نفسه إنسانا حقيقيا في هذه العوالِم اللاَّمعقولة، بينما يجد نفسه إنسانا غريبا، إنسانا مُزَيّفا؛ في أي سياق من سياقات التفكير العقلاني المُنظّم الذي يُحَاول ترشيد هذه العواصف الهوجاء من الأهواء والنزوات والأحلام الكاذبة التي تحاول تجاوز الواقع الذي لا ترتاح إليه بالهروب منه؛ و لو إلى أسخف وَهْم من الأوهام. 

لقد كشفت وسائل الاتصال الجماهيري هذا البُعد الخُرَافي الأصيل في الإنسان؛ كما لم يَتكَشّف مِن قبل. فهذه الوسائل التي منحت الجميع فرصة التفاعل التواصلي؛ كفاعلين وكمستقبلين في آن، أوْضَحت بشكل مباشر حقيقة مؤلمة مفادها: أن البشرية لو خضعت لمستوى الوعي الدَّهْمَائي/ الغوغائي الذي يُشَكِّل وَعْيَ الأغلبية الساحقة من بني الإنسان؛ لَبَقي النوع الإنسان إلى اليوم رَهين كهوفه وغاباته وأدغاله، إنسانا همجيا متوحشا؛ لم يتقدّم ولا خطوةً واحدةً في مسار التقدّم والرقي الإنساني.

إن الحسابات الخاصة الأكثر جماهيرية في هذه الوسائل التواصلية هي ذاتها الحسابات الأشد نفورا من العقل، الأجْرَأُ على الاستخفاف بقوانين العلم ومنتجاته في مجالات شتى، وخاصة في الطب البشري، كما هي الأكثر ترويجا للخرافات وللأوهام، و الأعرف ـ حسب وقاحة الادعاءات الكاذبة ـ بالمُؤامرات التي تجري في سراديب مُغْلقة على ذاتها منذ عشرات السينين. 

بل ـ في مؤشر واضح وحاسم ـ ثمة حسابات مَكثت لسنوات تأبى أن تَنْجَرّ لمغازلة الوعي الجماهيري الكسيح بالسخافات وبالأوهام وبالأكاذيب؛ فلم تحظ بالمتابعة ولا بالتفاعل؛ إلا قليلا؛ أو أقل من القليل. لكنها، وبمجرد سقوطها ـ بفعل الإغراء الجماهيري ـ في مستنقع الترويج للخرافات الطبية والأساطير السياسية، والأكاذيب الشعبوية، والتفاهات العبثية؛ تحوّلت ـ في ظرف سنوات معدود ـ إلى حسابات رائجة متابعيها بالملايين.

أليس في هذا ـ لِمَن يُريد حَقّاً استبصارَ واقع الحال ـ دليلٌ ماديٌ مَلموسٌ، تَتواتَر وقائعُه، مُؤكدةً على أن الإنسان لا يرتاح للتفكير العقلي المُبَرْهَن، ولا يقنع بالإجراء العلمي المُقنّن ؟ 

الإنسان لا تُغْرِيه الحقائق، ولا تُقْنِعُه الوثائق، ولا تُرْوِي ظمَأه السحري الأخبارُ الصادقة المُوَثَّقة ذات الطابع المؤسساتي؛ بقدر ما تَسْتَبِدُّ بوعيه الخرافات والغرائب. وكلما كانت الخرافات أشد سُخْفاً، والغرائب أبعد عن شروط المعقولية؛ كان الانجذاب الإنساني إليها أقوى، والوَلَع بها أشمل. ما يعني أن الإنسان ليس كائنا عاقلا، بل هو كائن خرافي بامتياز. ويجب التعامل معه على أن خُرافِيته هي الأساس، وأن عقلانيته مَحدودة بحدودها النخبوية، وأنها ـ في كل أحوالها ـ عقلانية نِسبية، ظرفية، هامشية، استثنائية، يَتَهَدَّدُها الوعيُ الخرافي الأصيل على الدوام.  

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.