متظاهر في اسطنبول يحمل صورة مصطفى كمال أتاتورك مؤسس تركيا الحديثة
متظاهر في اسطنبول يحمل صورة مصطفى كمال أتاتورك مؤسس تركيا الحديثة

رحل قبل عدة أيام السياسي التركي المخضرم دنيز بايكال، زعيم حزب الشعب الجمهوري التركي لأكثر من عقدين ونصف (1985-2010)، والذي كان يوصف بأنه الممثل الأكثر تعبيراً عن الجيل الثالث من قادة الحزب، بعد مصطفى كمال أتاتورك، الأب المؤسس، والزعيمان عصمت وأردال أينينو. 

لكن بايكال، بكل تكوينه التعليمي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي والمناطقي الذي كان مختلفاً تماماً عن جيلي المؤسسين الأوائل ومن تبعهم، حافظ على الهيكل والجوهرانية المركزية للحزب، عقائدياً وسياسياً وتنظيماً. وهو أمر لا يزال مستمراً مع كمال كليجدار أوغلو، الذي يجد مع دائرة القادة والنخب المحيطة به صعوبة جمة في التحرر مما كان هذا الحزب عليه منذ التأسيس.  

فطوال مسيرته السياسية، التي ستبلغ قرناً كاملاً هذا العام، لم يسبق لحزب الشعب الجمهوري التركي "الحزب الأتاتوركي" أن عاش مرحلة وظرفاً تراجيدياً مثل الذي يشهده راهناً: فبعد عقدين كاملين من البقاء خارج السلطة تماماً، وهي المرة الأولى التي يحدث فيها ذلك طوال هذا القرن، وبينما يملك هذا الحزب وقادته ونخبه السياسية والاجتماعية والاقتصادية تلهفاً جامحاً لاستعادة السلطة بأي شرط كان؛ فإنهم غير قادرين على اتخاذ أية استراتيجية سياسية ورؤية أيديولوجية متجاوزة للخطوط والملامح التقليدية لهذا الحزب، كتيار قومي معتد بالعرقية التركية وملتزم بمركزية الدولة ومؤسساتها ومواثيقها الأبوية على المجتمع والفضاء العام ونوعية العلاقات الإقليمية والدولية التي لدولة مثل تركيا. 

طوال عقدين كاملين مضيا، كانت مختلف القراءات السياسية والتحليلات المعرفية تقول إن قدرة حزب العدالة والتنمية على الوصول للسلطة والاحتفاظ بها كل هذا الوقت، مقابل إقصاء القطب الآخر للحياة السياسية في البلاد، حزب الشعب الجمهوري، تأتت من قدرة حزب العدالة والتنمية على التعامل والتخفيف من القضايا التأسيسية الشائكة والإشكالية التي بنيت عليها هيكلة مؤسسات الدولة ونوعية النظام السياسي في البلاد، مثل هوية ودور الإسلام السياسي والحساسيات الطائفية والمسألة الكردية ورمزية الدولة في المشهد العام وموقع الجيش ومدى سطوته والخيار الاقتصادي والدور الإقليمي لتركيا. بينما بقي حزب الشعب الجمهوري متمركزاً حول المنابت الأولية لتلك القضايا، و"عبادتها" كعقائد مطلقة، على الرغم من التبدلات التاريخية الهائلة التي حدثت خلال هذا الزمن الطويل.  

كانت بعض الأوساط الثقافية والإعلامية المقربة من الحزب قد اعترفت بتلك المعضلات طوال هذه السنوات، معترفة بأن نسبة التصويت لمرشحي الحزب لن تتجاوز ثلث مجموع الناخبين في البلاد، في أقصى حالات التفاؤل، ما لم يتعامل بطريقة مختلفة مع طيف هذه القضايا.  

فحصة الثلث الموالي للحزب، حسب تلك القراءات/الاعترافات الداخلية في الحزب، هي دوماً تلك الكتلة المصمتة المؤلفة من أصوات أبناء الطائفة العلوية، الموالية للحزب الأتاتوركي بشكل شبه مطلق، مجموعين مع أعضاء الطبقات الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية المدينية والعسكرية العليا في المجتمع. وحيث أن مجموع نسبة هؤلاء تتراوح دوماً بين رُبع وثُلث سكان البلاد، ولا يمكنهم تأمين نصاب الفوز بأية انتخابات ديمقراطية. 

يحدث ذلك، في نفس الوقت الذي لم تعد فيه التدخلات والانقلابات العسكرية متوفرة، التي كانت تتدخل دوماً لإيصال الحزب لسدة الحكم، كل عشرة سنوات تقريباً. لذلك كانت تلك الأوساط المقربة من الحزب تطالب بإحداث تغيرات في رؤية الحزب. 

بعد سنوات من النقاشات الداخلية، قرر الحزب طرح مشروعه "رؤية مبتكرة.. دعوة للقرن الثاني" ضمن مؤتمر ضخم في أوائل شهر ديسمبر من العام الماضي، كاستراتيجية عليا لما سوف يسير عليه الحزب طوال عشرات السنوات القادمة. 

لكن المفاجئة كانت خلو كامل النص المطروح من أي شيء يُمكن تصنيفه في مجال السياسة والأيديولوجيا وإعادة تركيب وترتيب العلاقات بين البنى الأساسية والتأسيسية للدولة التركية وفي علاقتها مع المجتمع والمحيط الإقليمي والدولي.  

فبعض العبارات الاقتصادية والبيروقراطية المجردة، من مثل التعهد بزيادة الشفافية وتنشيط دورة الحياة الاقتصادية وتمتين الطبقة الوسطى واستقلالية القضاء، ربما تكون مناسبة لدولة لا تعيش أزمة سلطة حادة مثل تركيا الراهنة، التي تشهد أنواعاً مركبة من الحروب الأهلية الباردة، والتي من المتوقع أن تندلع بأشكال مختلفة في أي وقت.  

لكن الرؤية تلك، غير موافية أساساً لشروط وتطلعات حزب سياسي يرى نفسه أباً تأسيسياً للكيان والفضاء العام في البلاد، لكنه مستبعد تماماً من الحيز السلطوي طوال عقدين كاملين، ولم تتجاوز نسبة ونوعية ناخبيه ما كانوا عليه طوال هذه الفترة، بالذات في وضع تتلهف فيه قيادته ونخبه إلى إجراء تغيير جذري في هذه المعادلة السلطوية المغلقة في البلاد.  

بالضبط كما فعل حزب العدالة والتنمية قبل عقدين من الآن، وخرج من العباءة الأيديولوجية للإسلام السياسي ويمين الوسط التركية التقليدية، التي كانت تتمثل بحزب الرفاه/السعادة وقتئذ، وانفصل عنه بذلك المنحى قبل الانفصال التنظيمي، وقدم مجموعة من المقترحات المتعلقة باستبعاد هيمنة الجيش وتحرير الاقتصاد من المركزية وإيقاف العنف وحل المسألة الكردية وتفكيك أواصر الدولة العميقة وإعادة تشكيل وشائج تركيا مع محيطها الإقليمي حسب معايير جديدة، وتمكن بسببها من الوصول والهيمنة على السلطة والحياة السياسية في البلاد لعقدين كاملين. إن حزب الشعب الجمهوري لن يتمكن من إحداث ما هو جديد دون الانقلاب على ذاته.  

الرؤية النظرية تقول إن حزب الشعب الجمهوري من المفترض أن يفعل ذلك بأسرع وقت. فنوعية هذا الحزب، وتاريخيه وذاكرته الجمعية، تضعه في مصاف تلك التنظيمات الساعية للوصول إلى سدة الحكم أياً كانت الأثمان، حتى لو عبر انقلاب عسكري، كما حدث أكثر من مرة خلال التاريخ السياسي التركي.  

لكن الوقائع على الأرض تشير إلى العكس من ذلك تماماً.  

فقبل مئة يومٍ فحسب، من أهم انتخابات رئاسية وبرلمانية في التاريخ الحديث للبلاد، ليس من كلمة واحدة ينطق بها قادة الحزب من خارج القاموس الرسمي للحزب بشأن أي موضوع في البلاد، مجرد عبارات منمقة وجاهزة وصالحة لكل شيء، نوع من الطهرانية الكلامية التي تضمر وتدل على ما يعانيه قادة ونخب الحزب من تكبيل أيديولوجي وسياسي.  

كذلك فإن طاولة المعارضة السداسية، وسعي الحزب لإرضاء طيف من المعارضين السياسيين المتناقضين بكثافة وحدة تتجاوز تناقضهم مع السلطة الحاكمة، يدل على تطلع حزب الشعب المشرف على تلك التشكيلة المعارضة إلى عدم قول وفعل أي شيء من داخل نفسه. بل الوصول للسلطة عبر إرضاء كتلة من المصالح لهؤلاء المتناقضين. 

بعد كل ذلك، يبقى لهذا الحزب أمل واحد بالوصول إلى سدة الحكم، خطايا حزب العدالة والتنمية. وكل التاريخ يقول إن الذين وصلوا لحكم بلدانهم فقط حسب خطايا غيرها، أنما أنهكوا بلدانهم ومجتمعاتها بما لا يمكن وصفه. 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.