غموض نتائج لقاء باريس الخماسي حول لبنان زاد من حجم التكهنات المحلية، فذهبت الأطراف المحلية المعنية بالاستحقاقات الدستورية إلى تحليل النتائج وفقا لتمنياتها، وهي بالأغلب كانت رغبوية على مقاس مصالحها، ولكن الأرجح، وبحسب ما سرب من باريس، فإن المجتمعين لم يقدموا خارطة طريق لحل الأزمة كما روج البعض، إنما كان سقف الاجتماع ما قدمته دولة الكويت، الذي بات يعرف بالورقة الخليجية، ولا يبدو أن أحدا من المجتمعين قد تطرق إلى اسم معين لرئاسة الجمهورية، بل أن الجميع توافقوا على وضع مواصفات تناسب المرحلة المقبلة، كان من أهم شروطها أن يكون شخصية إصلاحية.
عمليا، الكلام عن شخصية إصلاحية لا يناسب منظمة السلطة الحاكمة في لبنان ولا مقاساتها، لأن أي تعريف للإصلاح لا تتطابق معاييره مع أي شخصية من دوائر منظومة السلطة، ما يعني أن الخارج يفضل أن يكون رئيس الجمهورية من خارج الصندوق، أي ليس من بعض الأسماء المقترحة التي باتت تقدم نفسها وسطية أو توافقية، كما أن شروط أو مواصفات الشخصية الإصلاحية ليست فقط مرتبطة برئيس الجمهورية، فهي أيضا تنطبق على الاسم الذي سيكلف بتشكيل الحكومة، وهذه صدمة أخرى للطبقة الحاكمة.
تذاكي المنظومة وصل في لحظة ما إلى الاعتقاد بأنه بالإمكان خداع المجتمع الدولي، من خلال تأمين الحد الأدنى من الشروط المطلوبة لرئاسة الجمهورية، ومن ثم المقايضة مع رئيس الحكومة، حيث الصلاحيات الواسعة في السلطة التنفيذية، إلا أن هذا التذاكي فشل فشلا ذريعا عندما عبرت الدول المعنية في ملف لبنان، خصوصا الدول الخمسة، عن رغبتها بأن تكون الإصلاحات سلة واحدة، أي لا فصل ما بين الرئاستين الأولى والثالثة، وأن الثالثة يجب أن تكون مدعومة بتوقيع رئيس الجمهورية أولا، أما ثانيا بكيفية اختيار أعضائها، خصوصا في الحقائب الإصلاحية التي تعنى بالمال والاقتصاد والعدالة.
إذن، ليس في باريس ما يثلج صدر المنظومة، فقدرتها على الإسقاطات محدودة، وثوب باريس أكبر من مقاساتها، لذلك عليها أن تتعامل بواقعية مع ظروفها وظروف الجمهورية، حيث يبدو أن الخارج غير مستعجل على تقديم حل على مقاسها، وليس على استعداد للقيام بمساومة تنقذها، فالأزمة التي تحاول المنظومة إنكارها أو ترقيعها أعمق من قدرتها على الالتفاف عليها، فهي أمام أزمة ببعدين، الأولى مالية اقتصادية ترتبط مباشرة بالأزمات المالية النقدية والمعيشية إضافة إلى التضخم والبطالة، أما البعد الثاني فهو سياسي واستراتيجي بامتياز، حيث لم يعد ممكنا إعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل 17 تشرين 2019 سياسيا، فتركيبة السلطة بشكلها السابق قد تفككت، وسقوط أجزاء منها بات أمرا واقعا حتى لو استغرق بعض الوقت، أما الاطراف التي تعتبر نفسها صلبة، فإنها ايضا عرضة للسقوط إذا استمرت بنفس مواقفها المتعنتة كأن شيئا لم يتغير لا في لبنان ولا في العالم، أما النقطة الثانية فإن موقع لبنان الجيوسياسي ودوره لا يمكن استخدامهما من قبل قوى ما فوق الدولة في مشاريع نفوذ إقليمية.
بالعودة الى باريس، المبهمة للبنانيين، والواضحة لمن شارك فيها، فإن التعافي وإنقاذ الدولة والحفاظ على هوية الكيان لا يمكن ان تكون بعامل خارجي فقط، فالخارج لا يمكن أن يساعد إذا ما لم يكمل اللبنانيون ما بدأوه في 17 تشرين 2019.