الزلزال ضرب مناطق واسعة في شمال غرب سوريا
الزلزال ضرب مناطق واسعة في شمال غرب سوريا

"الأنين" مفردة موجعة، ومؤلمة، تأخذك إلى عوالم مُعتمة، ولكنها في الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا كان الأنين يُضيء بصيصا من الأمل على أن هناك حياة تُقاوم تحت الأنقاض، هناك ما زال ناجون "أنينهم" البوصلة التي تقود رجال الإنقاذ لهم، فينتشلونهم من غياهب الموت.

انقطع الأنين كانت الرسالة الأكثر قسوة بتلاشي الآمال بالعثور على ناجين تحت العمارات، والبيوت التي تهدمت على ساكينها، توقف الأنين كان مُحبطا، وباعثا للتشاؤم، وكأن الدعاء كان ليتهم ظلوا "يئنون" حتى تصل معاولنا لهم، فنبعث بهم الروح.

بعد عشرة أيام على زلزال أقلق مضاجع العالم، ضرب تركيا وسوريا، ولكن صدى وجعه وصل لكل بيت، فالضحايا حتى الآن يفوقون 40 ألفا، والمصابون مئات الألوف، والمختفون الذين لم يُعثر عليهم تحت الأنقاض، لم يُعرف، أو يُحصر أعدادهم، والكارثة الإنسانية تتعمق، والمأساة كشفت عورات المجتمع الدولي الذي أشبعنا خطبا عن الحقوق، والقيم الإنسانية.

ديفيد هيرست الكاتب البريطاني المعروف كان صادما بكلامه بعد الكارثة "زلزال تركيا وسوريا كشف عن الوجه الحقيقي لأوروبا والغرب عموما، وأثبت أن العالم مهتم بالتدمير والحرب أكثر من اهتمامه بالتعمير".

يواصل هيرست في مقاله بـ ميدل إيست أي "إن الزلزال وفر للغرب فرصة ليظهر أنه قادر على إعادة البناء مثل قدرته على التدمير، وعلى توفير قيادة أخلاقية، وإنسانية لملايين الناس، ولكن هذه الفرصة ضاعت بسبب أن الغرب مهتم بالحرب على أوكرانيا أكثر من أي شيء آخر".

ما قاله هيرست لم يكن مفاجئا على أرض الواقع، فالشواهد على حالة "الفصام"، والمعايير المزدوجة للغرب كثيرة، وربما المآسي التي يمر بها الشعب الفلسطيني خير دليل.

المنسق المقيم للأمم المتحدة في سوريا المصطفى بن المليح يصرح "ضعوا السياسة جانبا، ودعونا نقوم بعملنا الإنساني، فلا يمكننا الانتظار، والتفاوض في هذا الوقت لأن الوقت يكون قد انقضى".

والاعتراف الأوضح بالإخفاق كان على لسان وكيل الأمين العام الأممي للشؤون الإنسانية مارتن غريفيث الذي يُقر أن الأمم المتحدة فشلت في إيصال المساعدات، وأن الناس شمال غرب سوريا محقون في شعورهم أن المجتمع الدولي تخلى عنهم.

صحيح أن العالم متواطئ، ولكن للأزمة وجه آخر له علاقة بالتوظيف السياسي في تركيا، وسوريا، وكلا الفريقين؛ السلطة والمعارضة لا يمكن تبرأتهما من دماء الضحايا.

يخرج الرئيس السوري بشار الأسد ليوجه أصابع الاتهام للغرب، واصفا إياهم أنهم يفتقدون للإنسانية، ويقول "الشيء الطبيعي تسييس الوضع، أما الشعور الإنساني فهو غير موجود لا الآن، ولا في الماضي".

الرئيس الأسد ونظامه متهم بإعاقة المساعدات الإنسانية، وخاصة في المناطق التي تخرج عن سيطرته، وأكثر من سياسي غربي يتهمونه أيضا، أنه يريد توظيف الكارثة الإنسانية للزلزال للضغط لرفع العقوبات المفروضة في "قانون قيصر"، والمعارضة السورية تريد هي الأخرى الاستفادة من الأزمة في الانقضاض على النظام، وشيطنته، والمماحكة، والرفض أن ترسل المساعدات الدولية والإقليمية من خلاله، والقول إنها ستُسرق، ولن تصل، وأن مُررت فترسل إلى المناطق التي تحت سيطرته فقط، وسيُحرم منها المعارضون.

معبر باب الهوى البوابة الوحيدة إلى المناطق المنكوبة في الأيام الأولى للزلزال كان مُعطلا، فالمناطق التركية المحاذية كانت متضررة، والأمم المتحدة عبر مجلس الأمن تضغط لانتزاع قرار بفتح بوابتين لتسهيل وصول المساعدات الإنسانية، وهذا الصراع الدبلوماسي في أروقة الأمم المتحدة سيخضع لمقايضات، ومساومات عنوانها السيادة، والشرعية.

الأضرار المعلنة والناتجة عن الزلزال في سوريا أقل بكثير، والمؤكد أن الدولة السورية لا تبسط سيادتها على كل مناطق الدمار، وفرق الإنقاذ بدائية، بما فيها ما تملكه "الخوذ البيضاء"، وبشاعة الزلزال ستتضح بعد مضي الوقت، وحين لا يعود المختفون تحت الأنقاض، ولا تُرفع الجثث، وتصبح نسيا منسيا.

وزارة الخزانة الأميركية علقت العقوبات المفروضة على سوريا في قانون قيصر لضمان إدخال المساعدات الإنسانية، والمقارنات بين ما تتلقاه أنقرة من مساعدات ودمشق، يشي بانحياز فاضح.
كارثة الزلزال في تركيا كان لها وقع فاجع على الرئيس رجب طيب أردوغان الذي يتحضر لانتخابات في شهر أيار القادم، والعديد من عائلات الضحايا يعلقون لوسائل الإعلام الأجنبية أنهم لن يسامحوا الحكومة على إخفاقها في التعامل مع الأزمة، والرئيس نفسه يعترف بالتقصير، والفجوات في التعامل مع الزلزال.

والباحثة في مركز الدراسات التركية الحديثة في جامعة "كارلتون" يفغينيا جابر تشير صراحة إلى أن التلاعب السياسي بالمأساة محتمل لدرجة كبيرة، وهناك خطر من العواقب المدمرة للزلزال قبل أشهر من الانتخابات التي يٌنتظر أن تشهد قدرا من المزايدات العامة الإعلامية في الداخل والخارج.

تدخل المعارضة التركية على خط الأزمة بقوة، ولا تفوت الفرصة للبطش بحزب العدالة والتنمية وزعيمه أردوغان، ويصرح "كمال كليجدار" رئيس حزب الشعب الجمهوري المعارض "نحن نعرف كل شيء يحاولون إخفائه، هذه الحكومة المجنونة قطعت الاتصالات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ولا تسمع صوت البكاء طلبا للمساعدة"، ويرد أردوغان منتقدا الانتهازيين الذين يحاولون تحويل ألم الشعب إلى مكاسب السياسة، واعدا بإعادة إعمار المناطق المنكوبة خلال عام.

أزمة أردوغان سابقة على كارثة الزلزال، فالأزمة الاقتصادية الطاحنة، والتضخم الذي زاد عن 50 بالمئة، خلخلت قواعد حزب العدالة والتنمية، وأعطت للمعارضة أسلحة للنيل من الرئيس الذي يقود البلاد منذ عقدين من الزمان.

قبل أكثر من 20 عاما، وتحديدا في عام 1999 ضرب زلزال عنيف تركيا، وأظهرت هذه الكارثة في حينها هشاشة السلطة القومية الحاكمة، ومهدت الطريق لوصول حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم في أنقرة، والأسئلة المطروحة الآن؛ هل تكون هذه الكارثة الإنسانية مقدمة لسقوط حزب العدالة في الانتخابات، وعودة المعارضة التقليدية للحكم؟

تنبش الصحافة في تركيا رغم القيود المفروضة عن ملفات فساد مرتبطة بمعايير البناء المقاومة للزلازل، وأن المقاولين "الفاسدين" لم يتقيدوا بها، وأن السلطة تهاونت في الرقابة لإظهار الطفرة والانتعاش الاقتصادي، لا سيما سوق العقار.

لا يمكن الاستهانة بقوة الزلزال الذي بلغ 7.8 درجة على مقياس ريختر، والخبراء يعتبرون قوته توازي ألف قنبلة نووية كالتي ضربت هيروشيما، ويُعد الخامس من حيث القوة في التاريخ، والأول كان زلزال تسونامي حين بلغ 9 درجات على مقياس ريختر.

الهلع الذي أحدثه الزلزال تداعياته تجاوزت حدود تركيا وسوريا، فالناس قلقة في الإقليم، وفي الأردن ارتفعت الأصوات التي تناقش تطبيق "كود" البناء المقاوم للزلازل، وتنتشر الإشاعات كالنار في الهشيم أننا على موعد مع زلزال قادم، مع كلام كثير عن أن منطقة البحر الميت تقع على صدع زلزالي.

رغم أن الأنين انقطع، وبعض فرق الإنقاذ توقفت، فإن صورة طفل يخرج من تحت الأنقاض حيا، ومبتسما يُعلن أن صرخة الحياة أقوى، وتنتصر.

تستمر الصور الموجعة في وسائل الإعلام، والتواصل الاجتماعي، وبعيدا عن الكاميرات، يظهر أن الكوارث قد تكون جسرا للمصالحات، والصفقات، وغالبا ما تكون على حساب الأرواح.

FILE - A U.S. Marine watches a statue of Saddam Hussein being toppled in Firdaus Square in downtown Baghdad on April 9, 2003…
"حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة صدام اسمك هز أميركا".

يصادف هذا الشهر بدء عامي العشرين في الولايات المتحدة، وهي بلاد انتقلت إليها للمساهمة في نشر الحرية والديمقراطية في دنيا العرب. لم يأت التغيير العربي الذي كنت أحلم به، فاتخذت من أميركا وطنا لي، وأكرمتني وأكرمتها، وأحببتها، وصرتّ أحدّث بنعمتها. لكن المقال هذا ليس عن الولايات المتحدة، بل عن خيبات الأمل العربية التي عشتها مرارا وتكرارا، والتي أثرت بي ولم أؤثر بها، والتي أفقدتني كل الأمل بالتغيير والتطوير والمستقبل في المشرق العربي وعراقه.

هذه الرحلة بدأت مع سنوات نضالي الطلابي في صفوف اليسار اللبناني. كنا تعتقد أن الطغاة هم أزلام الإمبريالية، زرعتهم بيننا لقمعنا وحماية إسرائيل، وأن العراقيين أكثر الشعوب العربية المتعلمة والمثقفة، شعب المليون مهندس. كنا نردد أن الأسد يحتل لبنان بمباركة أميركية وإسرائيلية، وكنا نصرخ "أسد أسد في لبنان، أرنب أرنب في الجولان".

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. انقلبت أميركا على إمبرياليتها، وأطاحت بصدام، وفتحت الباب للعراقيين للبدء من نقطة الصفر لبناء دولة حرة وديمقراطية. كنت أول من آمن ببناء العراق الجديد. زرت بغداد، وحوّلت منزل العائلة إلى مكتب مجلة بالإنكليزية اسميناها "بغداد بوليتين". بعد أشهر، قتل إرهابيون أحد صحافيينا الأميركيين، فأقفلنا وهربنا. ثم عرضت علي محطة أميركية ناطقة بالعربية يموّلها الكونغرس فرصة عمل في واشنطن. مهمتي كانت المساهمة في بناء القناة العراقية لهذه المحطة. كان مقررا تسمية القناة "تلفزيون الحرية"، لكن الرأي استقرّ على اسم مرادف، فكانت "الحرة".

حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة "صدام اسمك هز أميركا". على عكس ما كنت أعتقد وأقراني العرب، الأميركيون لم يسمعوا، ولم يأبهوا، بالعراق، ولا بإيران، ولا بباقي منطقة المآسي المسماة شرقا أوسطا. المعنيون بالسياسة الخارجية الأميركية هم حفنة من المسؤولين والخبراء وكبار الضبّاط. 

لم يكد يمرّ عامين على انتقالي إلى واشنطن حتى قتل "حزب الله" رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري، حسب الحكم الصادر عن محكمة الأمم المتحدة. أصدقائي في لبنان ممن اتهموني بالخيانة والانتقال إلى صفوف الإمبريالية الأميركية في حرب العراق تحوّلوا وصاروا مثلي، يرون في الولايات المتحدة مخلصا من "القضية" و"المقاومة" و"الممانعة" و"التحرير" التي صارت تلتهمهم. نفس مشكلة العراق، كذلك في لبنان، كيف ينجب شعب قبلي طائفي لا يفهم معنى الحرية أو الديمراطية دولة ديمقراطية؟ 

غرقت "انتفاضة الاستقلال" اللبنانية في بحيرة من الدماء، من الحريري إلى العزيز سمير قصير وبعدهما زهاء 20 سياسيا واعلاميا وضابطا كان خاتمتهم الصديق لقمان سليم. أما القاتل، فلبناني يعمي بصيرته فكر قروسطوي وتعصب مذهبي وعشائري، ويقضي على اداركه أن المواطنية والديمقراطية في مصلحته، وأن مصائبه ومصائب لبنان سببها غياب الحرية والديمقراطية، وأنه لا يمكن للإمبريالية، ولا للسفارات الغربية، ولا لإسرائيل، أن تهتم بمصير ومستقبل لبنان وخلاصه أكثر من اللبنانيين أنفسهم .

في العام 2006، هاجم "حزب الله" إسرائيل، فاندلعت حرب، ووقف عدد كبير من اللبنانيين ضد ميليشيا "حزب الله"، ورحنا نتظاهر أمام البيت الأبيض، فما كان إلا من السوريين الأميركيين أن عيبونا واتهمونا بالخيانة، وحملوا أعلام "حزب الله" وصور نصرالله. السوريون أنفسهم عادوا فأدركوا أن نصرالله، وبشار الأسد، وأصحاب القضية لا يقاتلون لحمايتهم، بل للبقاء متسلطين عليهم. بعد اندلاع ثورة سوريا في 2011، انقلب هؤلاء السوريون أنفسهم، مثل العراقيين واللبنانيين قبلهم، من قوميين عرب صناديد الى أعداء العروبة ومؤيدي الإمبريالية والغرب والديمقراطية.

وحدها غالبية من الفلسطينيين لم تدرك أن كل أرباب القضية والتحرير والمقاومة هم مقاولون منافقون. هللت غالبية من الفلسطينية لصدام، ولاتزال تهلل للأسد وقاسم سليماني وعلي خامنئي. لم يدرك الفلسطينيون ما فهمناه أنا وأصدقاء من العراقيين واللبنانيين والسوريين: إسرائيل شمّاعة يعلّق عليها العرب فشلهم في إقامة دول. لا توجد مؤسسات عربية من أي نوع أو حجم قادرة على العمل بشفافية أو يمكن الإشارة اليها كنموذج عمل مؤسساتي. كل نقيب في لبنان أورث النقابة لولده، وكل رئيس ناد رياضي فعل الشيء نفسه. حتى المفتي الجعفري الممتاز في لبنان أورث منصبه إلى ابنه. ثم يقولون لك إسرائيل وسفارة أميركا والإمبريالية.

قبل ستة أعوام، بعد مرور أعوام على استقالتي من الحرة وانقطاعي عنها، تسلّم رئاسة القناة أميركي مثقف من الطراز الرفيع، فقلب المحطة رأسا على عقب، وطوّر موقعها على الإنترنت، وقدم الفرصة لكتّاب مثلي للنشر أسبوعيا. 

على مدى الأسابيع الـ 290 الماضية، لم أنقطع عن الكتابة أو النشر ولا أسبوع. مقالاتي تمحورت حول شرح معنى الحرية والديمقراطية وأهميتهما، وأهمية أفكار الحداثة وعصر الأنوار الأوروبي، والإضاءة على التاريخ الغني للعرب، والتشديد على ضرورة التوصل لسلام عربي فوري وغير مشروط مع إسرائيل. ناقشت في التاريخ، والأفلام العربية والمسلسلات، والسياسة والاجتماع. رثيت أصدقاء اغتالتهم أيادي الظلام في بيروت وبغداد. 

بعد 20 عاما على انخراطي في محاولة نشر الحرية والديمقراطية والسلام، أطوي اليوم صفحة تجربتي مع الحرة، في وقت تضاعف يأسي وتعاظم احباطي، وتراجعت كل زاوية في العالم العربي على كل صعيد وبكل مقياس، باستثناء الإمارات والسعودية والبحرين. حتى أن بعض الدول العربية انهارت بالكامل وصارت أشباه دول، بل دول فاشلة ومارقة يعيش ناسها من قلّة الموت.

لن تأتي القوة الأميركية مجددا لنشر الحرية أو الديمقراطية بين العرب. تجربتها بعد حرب العراق ومع الربيع العربي علّمتها أن لا فائدة من محاولة تحسين وضع شعب تغرق غالبيته في نظريات المؤامرة، وتتمسك بتقاليد قرسطوية تمنع تطور ثقافة الديمقراطية لبناء دولة حديثة عليها.

اليوم، أترجّل عن مسرح الحرة. سأواصل سعيي لنشر مبادئ الحرية والديمقراطية عبر مواقع أخرى، في مقالات ودراسات وتغريدات وغيرها، لكن رهاني على التغيير انتهى. المحاولات ستتواصل حتى لو بلا جدوى، عسى ولعل أن يسمع الصوت من يسمعه.