جامعة سيناء
جامعة سيناء

راعني ما حدث لمي عبد الله، الطالبة في الفرقة الأولى بكلية طب أسنان، جامعة سيناء، بعد أن أعلنت الجامعة فتح باب التحقيق معها بتهمة ازدراء الأديان لأنها نشرت عدة منشورات اعتبرها البعض استهزاء بالنبي وبالجنة وبالحجاب، وبثوابت الدين الإسلامي كما يقولون! 

وكنت أنتظر أن تقوم الجامعة بدورها الريادي في حماية الفكر حتي لو كان مخالفا للغالبية. فأسس البحث العلمي تقوم على بحث أي افتراض أو رأي ووضعه تحت المجهر المحايد. ففي حالة الطالبة مي عبد الله فقد كان أحرى بالجامعة أن تعقد حوار ونقاش حول هذه الأفكار أو – وهو الأفضل – ألا تتدخل في ما لا يعنيها وتحترم حرية الفكر والتفكر. 

وقد ذكرني ما فعلته هذه الجامعة بعصور الغاب وعصور الظلام حين كان يتم معاقبة الرأي المختلف لا لشيء إلا لأنه لا يرضي الغوغاء الذين لا يتحملون وجود رأي مخالف لهم. 

و"الله يرحم" جامعات مصر قبل "الصحوة الإخوانية" في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، والتي جاءتنا بعقول تريد أخذنا إلى عصور أسوأ من عصور الجاهلية. فحتى في وقت ما يسمونه بالجاهلية كانت حرية العقيدة مكفولة لكثيرين، فكان عبدة الأوثان يعيشون في سلام مع المسيحيين ومع اليهود ومع الصابئة والكل يتقبل وجود الآخر.  

أما نحن وفي القرن الواحد والعشرين، فإن جامعتنا المذكورة أعلاه لا تتردد في فتح تحقيق مع طالبة لأنها "تفكر" بصورة مختلفة عن الآخرين! وذكرني هذا بأول ما قاله لي أحد أمراء الجماعة الإسلامية المصرية حينما انضممت إليها في عام 1978 وكان ما قاله لي بالحرف الواحد "الفكر كفر".  

ويبدوا أن السيدة راندا حافظ، عميدة كلية طب الأسنان جامعة سيناء انضمت هي الأخرى للجماعات المتطرفة التي تكفر "الفكر". 

فقد أشارت عميدة كلية طب الأسنان المذكورة في تصريحات خاصة لـقناة القاهرة 24، إلى أن الجامعة سوف تستدعي الطالبة مي عبد الله طالبة طب الأسنان بإدارة الجامعة، للتحقيق معها فيما هو منسوب إليها من منشورات. وأتصور الآن مشهد محاكمة "جان دارك" حين تمت محاكمتها وبعد ذلك تم تكفيرها وقتلها حرقاً! وهو لا يختلف عما حدث للكاتب المبدع وشهيد الكلمة  فرج فودة حين تمت محاكمته من قِبل من يرفضون فكره وبعدها تم تكفيره ومن ثم قتله! والمشهد الهزلي الذي نراه اليوم في جامعة سيناء لا يختلف كثيراً فهو في نهاية الأمر اعتبار "الفكر" جريمة من حقهم أن يحققوا فيها وينصبوا المشانق للمختلفين عنهم حتى يردعوهم كما قال أهل الكهف عن أقوامهم "إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا﴾ (سورة الكهف آية 20). 

وعامة، فإن صفة مجابهة الفكر بغير الفكر سواء كان باعتباره جريمة يتم التحقيق فيها أو بمعاقبته لأنه "مختلف" هي صفة المجرمين الذين ذكر القرآن في العديد من سوره وآياته كيف كانوا يواجهون فكر من يختلف عنهم، فتارة يهددونهم بالقتل: "وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ۖ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ" (سورة غافر آية 26). وتارة يهددونهم بالإخراج والطرد "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ۖ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ". ولن أجد في هذا السياق أوضح مما قاله قوم لوط لسيدنا لوط "أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ" (سورة الأعراف آية 82). 

وأختتم كلماتي في هذا المقال بأن أقول أن الجريمة الحقيقية ليست في "الفكر" بل في "محاكمة  الفكر". 

وللحديث بقية! 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.