كنيسة إنكلترا أعلنت أنها تدرس الإشارة إلى الإله دون تحديد جنسه اللغوي
كنيسة إنكلترا أعلنت أنها تدرس الإشارة إلى الإله دون تحديد جنسه اللغوي

لو سألت أي تابع لأي دين عن جنس الإله الذي يعبده فسوف يؤكد لك قطعا أنه ليس لديه جنس، فهو ليس بذكر وليس بأنثى ولا تنطبق عليه هذه الأوصاف التي هي خاصة بالمخلوقات. 

ومع ذلك فالكتب المقدسة في معظم الأديان، إن لم يكن جميعها، تشير إلى الإله بصيغة المذكر، وهي تستعمل الضمائر العائدة على المذكر مثل "هو" أو الهاء المتصلة الدالة عليه!

وباستثناء الشعوب القديمة التي كانت تعبد آلهة مؤنثة وبالتالي من المؤكد أنها كانت تشير إليها بهذه الصيغة، فإن الأديان الحديثة نسبيا وخاصة الإبراهيمية اعتمدت الصيغة المذكّرة وتمسكت بها.

ولم يجد أتباع هذه الأديان أية مشكلة في الإشارة إلى الإله على النحو الذي تتحدث به عنه كتبهم الدينية وفي الوقت نفسه التعامل معه بوصفه خارج نطاق الزمان والمكان.

لذلك فإن السؤال المضمر هنا دائما هو كيف يمكن الإشارة إلى الإله من دون الوقوع في "التجسيم" أو "التشييء"، وصيغة الجنس - وفي حالتنا هذه صيغة المذكر - تندرج ضمن "التشييء" بصورة أو بأخرى؟ 

الحقيقة أن اللغة لا تسعف الإنسان في هذا المجال لأنها مصممة للتعامل مع ما تدركه الحواس وما يقع ضمن نطاقها، والإله هو خارج الحواس، وبالتالي فإن من أراد الإشارة إليه لغة لا بد أن يعيده إلى نطاقها بصورة من الصور وهذا هو سبب ذكر الأوصاف (ومعظمها غير منطقي وغير معقول) للإله التي نراها في الكتب الدينية. إذ أنه لا مفر من استخدام الضمائر إذا ما أردنا الحديث عنه بصورة مباشرة. 

ومن المفهوم أنه خلال العصر الذكوري الذي ساد لحقب طويلة حافظت النصوص الدينية على صيغة ذكورية، فهي نتاج ثقافة ذكورية عموما، سواء في الإشارة إلى الإله أو في أوصافه أو في كون الأنبياء جميعهم من الذكور، ولكن في العصر الحديث ربما أصبح من الصعب تفسير ذلك أو الإصرار عليه. والخيار هو إما اعتماد التوازن، أي الإشارة إلى صيغة المذكر والمؤنث في الوقت نفسه، أو الابتعاد عنهما واتباع لغة محايدة من الناحية الجندرية قدر الإمكان..

وهذا ما وجدته كنيسة إنكلترا مؤخرا حلا مناسبا. حيث أعلنت أنها تدرس الإشارة إلى الإله دون تحديد جنسه اللغوي، وأكدت أنها ستنظر في "كيفية وصف الله ومخاطبته في الصلوات. ولا يوجد جدول زمني لهذه العملية".

والواقع أن ما تقوم به هذه الكنيسة هو مثال على الجرأة والشجاعة، رغم أنه قد لا يكون جديدا تماما، حيث إن بعض الطوائف الدينية ولا سيما الروحانية منها في الولايات المتحدة، قامت بغربلة نصوصها الدينية للتأكد من أنها لا تحوي تمييزا جندريا.  

وحتى في بعض الكنائس المسيحية هناك وعي متزايد بأهمية الأخذ بالاعتبار التطورات التي طرأت على مسائل الجنس والنوع في السنوات الأخيرة.    

وليس بعيدا عن ذلك الظاهرة التي تنمو في بعض الولايات الأميركية وخاصة كاليفورنيا حيث ترفض بعض العائلات إطلاق جنس معين على المولود/ة، أو ذكر جنسه في الوثائق الرسمية. وهي ظاهرة تسعى إلى تجاوز الإرث الذكوري والديني حصريا، وترك الحرية للطفل/ة لتعريف أنفسهم بأنفسهم.

بعبارة أخرى تشير التطورات المتسارعة التي نعيشها على أن الهامش بين مفهومي الذكورة الأنوثة آخذ في التقلص وإلى درجة أنه في العقود القادمة ربما يكون من الصعب والمستهجن في الوقت نفسه إقامة التمييز بين البشر على أساس جندري. واليوم يمكن ملاحظة أن الأجيال الجديدة أقل ميلا لتعريف نفسها وفق النمط التقليدي أو تبني الهوية الجندرية بصورة صارمة، كما كان عليه الحال في الأجيال السابقة.

لن يختفي مفهوما الرجل والمرأة بالطبع، ولكن المساحات التي كانت تغطيها مفاهيم الذكورة والأنوثة سوف تتقلص. والتوجه العام هو نحو الحياد الجندري وبصورة تسمح بأن نأخذ التنوع الجندري الكبير في الاعتبار سواء لدى صياغة القوانين أو التشريعات أو تنفيذ السياسات والخطط وكذلك في صيغ التعبير والإشارة المختلفة.

ومن الطبيعي أن ينسحب ذلك أيضا على الدين وخاصة العلاقة مع الإله، والتي تعتبر لدى الكثير من المتدينين علاقة شخصية، ولذلك من غير الطبيعي ومن غير الصحي الإبقاء عليها ضمن صيغة جندرية محددة، في الوقت الذي تجاوزها الواقع المعاش بكثير.

من الناحية اللغوية وكذلك اللاهوتية البحتة سيشكل ذلك تحديا مستمرا لأن الأمر لا يقتصر على استخدام الضمائر فقط، كما أن الذكورية متجذرة في بعض النصوص الدينية بصورة يصعب التخلص منها أحيانا، لكن الأمر ليس مستحيلا، والخطوة الأولى هي الاعتراف بالمشكلة، كما فعلت كنيسة إنكلترا على نحو صائب.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.