فرنسا لم تجد ترحيبا بترشح سليمان فرنجيه
فرنسا لم تجد ترحيبا بترشح سليمان فرنجيه

ما إن انتهى اجتماع باريس الخماسي الخاص بالشأن اللبنانيّ، حتى رفع "حزب الله" وتيرة هجومه على "الوصاية الخارجيّة"، متحدّيًا ما سمّاه " خطة تجويع" اللبنانيّين، وذهب أمينه العام حسن نصرالله الى إعلان مواجهة مع الولايات المتحدة الأميركية، باستهداف إسرائيل، بالنار ردًّا على استهداف لبنان بالفوضى.

لماذا هذا التصعيد؟

من دون شك، إنّ السياسة العقابية التي تتبعها الإدارة الأميركية ضد المتعاونين مع "حزب الله" ولا سيّما في الشق المالي تترك ندوبها على مصالح هذا الحزب، إذ تجعل جميع من تستخدمهم في القائمة السوداء.

والأدهى من ذلك إن العقوبات الأخيرة التي أنزلتها وزارة الخزانة الأميركية بحق شركة حسن مقلّد الماليّة أظهرت علاقة "تواطؤ" بين "حزب الله"، من جهة وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، من جهة أخرى.

وبغض النظر عن تداعيات هذه البيّنات على سلامة نفسه، فإنّ الإدارة الأميركية، وجهت إلى "حزب الله"، من خلال ما فضحته، ضربة موجعة، إذ طالما زعم الحزب في مناقشته لأسباب الانهيار المالي في لبنان "براءته" من رياض سلامة.

ولكنّ ذلك على أهميته لا يختصر الدافع وراء التصعيد الذي هو، وفق المطلعين، هجوم مموّه على المملكة العربية السعودية التي صدّت في اجتماع باريس الهجمة الفرنسية لمصلحة وصول مرشح "حزب الله" سليمان فرنجية الى رئاسة الجمهورية، الأمر الذي وجد دعمًا من قطر ومصر وصمتًا إيجابيًّا من الولايات المتحدة الأميركية.

ومنذ أعلنت إيران نيتها تهيئة الأرضية لحوار منتج مع المملكة العربية السعودية، أوقف "حزب الله" هجوماته على الرياض.

وتتقاطع الإدارتان الأميركية والفرنسية عند نقطة واحدة في مناقشة الحل المستقبلي للوضع في لبنان، إذ يعتبران أنّ أيّ حل لا يحظى برعاية الرياض لا قيمة له، لأنّ نهوض لبنان يحتاج الى الدعم السعودي المباشر.

ولا تقف السعودية، وفق ما أبلغته الى اللبنانيين وعواصم القرار، ضد وصول أيّ مرشح الى رئاسة الجمهورية، ولكنّها، في حال وصل مرشح "حزب الله"، فهي لن تكون معنيّة بأي خطة إنقاذية للبنان، الأمر الذي لن يوفّر للبنان المساعدات التي يحتاجها.

وتعتبر الرياض سليمان فرنجية مرشح "حزب الله"، في حين تجد في قائد الجيش اللبناني العماد جوزف عون حلًّا وسطًا يمكن دعمه، وهذا ما لا يتناقض وتقييم واشنطن ولا يتعارض مع توجهات الدوحة والقاهرة.

ويجد "حزب الله" أنّ الخطة التي وضعها من أجل وصول سليمان فرنجية الى القصر الجمهوري في خطر، وهو يظن أنّ واشنطن تملك أدوات التأثير على الرياض.

وعليه، فإنّ "حزب الله" يصعّد، من خلال وضع الولايات المتحدة الأميركية، في الواجهة ضد ما انتهى اليه اجتماع باريس الخماسي، ويقدّم اقتراحات صالحة دعائيًّا لبدائل الدعم المالي السعودي، من خلال الرهان على الغاز الذي لم تكتشف كمياته بعد، ومن خلال تكرار مقولات النهوض بالقطاعين الزراعي والصناعي والتوجه الى الصين وروسيا، وذهب رئيس كتلة "حزب الله" النيابية محمد رعد الى أبعد من ذلك إذ اعتبر أنّ الجوع ليس مشكلة "لأننا قوم نعبد الله بالصوم".

إنّ الملف الرئاسي في لبنان دخل مرحلة دقيقة جدًّا، إذ بدا واضحًا أنّ فرنسا عجزت عن تسويق خيار سليمان فرنجيّة، وبالتالي تثمير تناغمها المعروف مع "حزب الله" في لبنان، في حين نجحت المملكة العربية السعودية في توفير غطاء عربي لترشيح قائد الجيش العماد جوزف عون الذي تربطه علاقات ممتازة بالولايات المتحدة الأميركية سبق أن أثارت استياء روسيا.

وعلى الرغم من أنّ الجميع يعتبرون أنّ الانتخابات الرئاسية هي المدخل لإعادة تكوين السلطة في لبنان، وتاليًا المفتاح لإطلاق آليات خطة انتشال "بلاد الأرز" من الجحيم، فإنّ "حزب الله"، على الرغم من دعواته الى الحوار، لا يزال يقف عائقًا دون حلّ وسط محلي وإقليمي ودولي يتمثّل بالالتفاف حول شخصية قائد الجيش العماد جوزف عون.

ويريد "حزب الله" من خلال نسب حصار مزعوم على لبنان إلى الولايات المتحدة الأميركية أن يرفع عنه مسؤولية تفاقم الإنهيار الناجم عن إقفال الأفق أمام الانتخابات الرئاسية، لأنّه يرفض الذهاب الى حلّ وسط ويصر على فرض مرشحه على اللبنانيّين.

وبهذا المعنى، فإنّ "حزب الله" بتصعيده، يحاول أن يعيد الاعتبار الى صفقة تناسبه، بعدما تسبّب الموقف السعودي في باريس، بتصدّعها.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.