تصاعدت في العقدين الأخيرين أعداد ضحايا الحروب المنتشرة وأعمال العنف والأزمات الاقتصادية المستعصية، إضافة إلى ضحايا الأوبئة والكوارث الطبيعية الناتجة عن التغير المناخي الذي شملت تداعياته المدمرة جميع أنحاء الأرض. ضحايا تنوعت أنواع معاناتهم بين النزوح واللجوء والتهجير القسري والفقر المدقع والمجاعات وغيرها من أشكال النكبات الإنسانية القاسية بمجملها، والتي نعاينها حولنا وطالت الملايين في بلدان مثل سوريا واليمن ولبنان وفلسطين والعراق وأوكرانيا وعدد كبير من الدول الأفريقية والآسيوية.
تقع النكبات على الجميع، لكنها في الحقيقة أكثر من تطالهم تأثيراتها الآنية والمديدة هم الأطفال، الفئة الأضعف والأكثر هشاشة في المجتمعات، وهو مابرز مؤخراً في أحدث تجلياته الخطيرة عقب الزلزال المدمر الذي ضرب كل من تركيا وسوريا في السادس من فبراير الجاري وتسبب بمقتل نحو أكثر من 45 ألف قتيل يتوزعون بين البلدين، ومازالت تداعياته الكارثية وأعداد القتلة والمفقودين والمشردين في العراء وجميع المتضررين ترتفع كل يوم، وترفع معها منسوب الأسى ومؤشرات الشقاء.
إذ، وبحسب منظمة الأمم المتحدة للطفولة(يونيسيف)، فإن أكثر من سبعة ملايين طفل، 2.5 منهم في سورية قد تأثروا بالزلزال، وهو رقم تقديري أولي يتعلق بالأطفال الذين تأثروا بشكل مباشر في الأماكن المتضررة، فيما يمكن توقع أرقام أكبر بكثير تتعلق بملايين الأطفال الذين تأثروا بشكل غير مباشر ويتوزعون في باقي المدن التركية والسورية غير المتضررة، وأيضاً الأطفال في الدول المجاورة وجميع من يتابع تداعيات هذا الحدث المؤلم، والمتعلقة بأثر الخطر النفسي ونوبات الهلع والكوابيس التي باتت تصيب الأطفال، وبخاصة مع تنامي المخاوف المتزايدة بسبب تتالي الهزات الارتدادية وتفاوت قوتها، والتي لم تتوقف حتى اللحظة منذ حدوث الهزة الأولى الكبرى.
في ظل هذا المشهد المآساوي والسوداوي العام القائم اليوم، علت أصوات مجتمعية وثقافية وفنية محلية وإقليمية وعالمية كثيرة تطالب بتغيير القوانين المتعلقة بموضوع التبني، أو إبداء بعض المرونة حياله في ظل هذه الكارثة التي أفرزت عدد كبير من الأطفال الذين إما فقدوا أسرهم بالكامل أو ليس لديهم أقارب من طرف الأب أو الأم. وبالتأكيد، وكأي موضوع يتعلق بالشرائع المعمول بها، تواجه هذه المطالبات بالأخذ والرد والصد، فيما كل ساعة تمضي، تزداد فيها معاناة الأطفال وفجائعية ظروفهم بين النوم في العراء والصقيع والجوع وجميع متطلبات البيئة الآمنة التي يحتاجها الطفل بشكل طارئ.
الآلاف الذين يطالبون اليوم بتبني طفل أو أكثر من ضحايا الزلزال، هم في معظمهم من الأثرياء المحليين أو أثرياء العالم أو المقتدرين مالياً بشكل وسطي وأيضاً بعض النجوم المشهورين، الذين سبق لهم أن تبنوا أطفالا من جنسيات مختلفة وضموهم إلى أطفالهم وأسرهم الكبيرة. ومن نافل القول، إن من يبدي رغبة صادقة بتبني طفل، هو إنسان كامل الإرادة، رحيم في المطلق، يدرك تبعات القضية القانونية المتعلقة بها والأعباء النفسية والمادية التي ستقع عليه، ويدرك جيداً أنها ستكون رحلة إنسانية عاطفية طويلة المدى لا تراجع بشأنها أو مزاجيات أو أهواء آنية.
ورغم ذلك، يقدم على موضوع التبني مدفوعا من ضميره وواجبه الإنساني وليس استعراضاً فارغاً أو طلباً للشهرة والمديح. وهو يضع في اعتباره أولاً وأخيراً أن مصلحة الطفل المتبنى الواقع تحت أقسى شروط العيش وشظفه هي العليا، وتقديم كل الدعم العاطفي له وتعويضه عن فقدانه لأسرته وتلبية احتياجاته الغذائية والنفسية والتربوية والتعليمية. وأنه سيكون، في البلدان التي لديها قوانين رسمية ومجتمعية خاصة بموضوع التبني، موضوعاً إلى زمن طويل تحت إشراف رقابة مستمرة منها، بل امتلاك هذه الجهات الرسمية الحق الكامل في زيارة منزله دون سابق إنذار للتأكد المستمر من تلبيته للشروط القانونية والمعقدة أحياناً التي وافق عليها وتخص الطفل المتبنى، وأن هذا الطفل في أفضل حال صحي ونفسي ويعيش حياة كريمة كاملة كأي فرد من أفراد الأسرة.
القوانين والشرائع التي تحرم التبني خشية ضياع النسب ووضعت بدائل عنها مثل نظام كفالة يتيم، هي واحدة من الحلول الإنسانية الإيجابية التي تساهم دون أدنى شك في رعاية الأيتام في المطلق وفي الأحوال والظروف العادية. ولكن الظروف اليوم باتت أشد قسوة، ومن كان مقتدراً لأجل كفالة يتيم في الأمس، ربما أضحى معوزاً، أو في أقل تقدير غير قادر على إيفاء التزاماته اليوم في ظل هذه الكوارث المتتالية والغلاء الفاحش الذي أصاب معظم بلدان العالم، وبشكل خاص المناطق السورية المنكوبة.
كما أن تبني طفل وعيشه ضمن أسرة محبة ودافئة، هو حل مستدام وقد يكون أفضل بكثير من وضعه في أحد دور الأيتام، التي تكتظ بالأطفال ومتلازمة القهر المقيم والانكسار النفسي الذي يطبع شخصية يتيم الميتم ويرافق حياته مهما كبر. عدا عن أن هذه الدور تحتاج إلى الكثير من الإمكانيات والمساعدات المستمرة، والتي مهما بلغت من أرقام، ستظل ناقصة في ظل الاحتياجات الرئيسة المتزايدة التي يتطلبها طفل الميتم، ناهيك عن أن معظم العائلات في العديد من البلدان المنكوبة باتت غير قادرة اليوم على تلبية احتياجات أطفالها على مستوى الغذاء كأقل تقدير، فكيف بدور الأيتام التي يمكن أن تُنسى وتهمل مع طاحونة الحياة وقسوتها؟
واحدة من القصص القاسية والمؤثرة التي تم تبادلها قبل أيام وأثارت موجة غضب شعبي عن رجل في أحد المناطق السورية متزوج من امرأتين، نجا من الزلزال هو وزجته الثانية وأطفالهما، فيما قضت زوجته الأولى تحت الأنقاض مع طفلها الصغير وتم انتشال ابنها الكبير 15 عاماً حياً. الزوجة الثانية بحسب كلام الرجل ترفض أن ينضم هذا الابن الناجي إلى أسرتها وأطفالها، والزوج يبرر لها موقفها بل يجد لها أعذاراً ويتخلى عن رعاية ولده، في الوقت الذي يعرض فيه الغرباء تبني ورعاية هؤلاء المنكوبين. ورغم أن القوانين الرسمية السورية ستلزمه بولده حتماً، لكن معنى المآساة الحقيقي يختصر في مصير هذا الولد يتيم الأم، والذي سيحفر موقف والده المتخاذل أخدوداً عظيماً من الأسى سيضاهي مافعله الزلزال في نفسه.
قصص مأساوية كثيرة سنسمعها في القريب العاجل وستدمي قلوبنا وأرواحنا، والضحايا في معظم الحالات هم الأطفال، واليتامى منهم بشكل خاص، الذين قد يعاني معظمهم من التمييز العاطفي والغذائي والتعليمي حتى لو كانوا في كنف بيوت أقرب أقربائهم، والذين قد يبدي معظمهم رغبة عاطفية مؤقتة لاحتضانهم تحت تأثير الكارثة الحالي، لكن الحقيقية المرة هي أن لا أحد يحب الولد سوى أمه وأبيه، فما الضير في إبداء بعض المرونة الاستثنائية المتعلقة بموضوع التبني لأجل مصلحة طفل يرغب أحدهم أن يرعاه بكامل عاطفته وإرادته وإمكانياته، مع الاحتفاظ بكافة حقوق الطفل الخاصة بنسبه وفي ظل تقدم العلم في هذا المضمار البيولوجي؟