هنالك فرق بين الدولة، وإدارة الدولة.
في الأردن، الدولة ليست ضعيفة، بل متمكنة ولا تزال متماسكة رغم الارتباكات العديدة داخليا وخارجيا، إدارة الدولة هي التي تعيش أزمة، والأزمات حضورها طبيعي في الأردن، فالأردن وحسب منطق الجغرافيا السياسية وحده يقع في منطقة "الهزات السياسية وارتداداتها"، المهارة تكمن في تلك الإدارات التي تستطيع أن تتجاوز الأزمات بتتابع دائم، لكي تتخيل الأردن دولة بلا أزمات عليك بالضرورة أن تتخيل إقليما يحيط بالأردن خالي من كل الأزمات! وهذا من ضروب الخيال وخارج معطيات الواقع.. إذن فلنتحدث بالواقع حسب الوقائع بدون تشويه انتقامي يتعمد التقويض، ولا مبالغات تتطرف بالوهم مهما كانت مليئة بحسن النوايا الوطنية.
وأنا كأردني "هاجر إلى موطنه الجديد في أوروبا" أقر بشيء من اعتزاز على صمود "الدولة" لتنهي مئة عام منذ تأسيسها كإمارة صاغها على عجل مؤسسها عبدالله الأول، الأمير الهاشمي القادم من الحجاز وقد سحق ابن سعود طموح والده "الحسين بن علي" بخصومة سياسية تاريخية قديمة، وبخذلان بريطاني فقضى أيامه في قبرص منفيا منسيا، وارتحل عبدالله الأول وأشقاؤه الأمراء من الحجاز، كل يبحث عن مملكة ودولة.
إذا رغبنا بدخول سوق المزاودات القومية "وهو سوق إنشائيات مفتوح للجميع دوما في عالمنا العربي" فيمكن القول براحة كاملة إن الأردن في بداياته كدولة ناشئة قبل مئة عام كان المشروع القومي الوحيد في المشرق العربي تحديدا، وهذا يتجلى في حكوماته الأولى التي أسست للدولة الناشئة طريقها، واستوعبت تلك الدولة الناشئة المشروع القومي العربي "المشرقي" وقد فشل في دولته الأولى في دمشق، وكان رئيس وزرائها الأول اللبناني الدرزي، رشيد طليع، المتعلم في الأستانة والموظف الرفيع في الدولة العثمانية، ثم وزير داخلية الملك فيصل في دولته الأولى في دمشق، لينتهي رئيس أول حكومة في الدولة الأردنية الوليدة على الضفة الشرقية من نهر الأردن.
وكان خليفة طليع في رئاسة المشاورين "الوزراء"، السوري الحمصي، مظهر رسلان، والذي عاد إلى دمشق بعد ذلك ليكون وزير تموين في الحكومة السورية، ليتولى منصب رئيس حكومة الدولة الناشئة في الأردن، علي رضا الركابي، الدمشقي الذي شكل حكومتين (الرابعة والسابعة) ثم عاد إلى مسقط رأسه ليرشح نفسه رئيسا للجمهورية السورية في انتخابات الرئاسة وقد حمل برنامجا سياسيا هدفه إعادة الحكم الهاشمي "الفيصلي" لسوريا.
لكن الركابي فشل في ذلك، ثم ورثه في رئاسة الحكومة، حسن خالد أبوالهدى، وهو من عائلة من خان شيخون في ضواحي حلب، وقد نشأ في الأستانة، حيث تلقى فيها أرفع العلوم، واسم عائلته لا يمت بصلة لعائلة أبوالهدى، التي كان منها رئيس الوزراء الأردني أيضا في مرحلة التأسيس توفيق أبوالهدى، وهو ابن عائلة الفاروقي من الرملة.
في ظل كل ذلك، كانت تلك الإمارة بحكوماتها المتعاقبة وشخصيات دولتها، الذين أتوها من كل الاتجاهات من مكة، مثل عبدالله السراج، حتى مدن سوريا وفلسطين ولبنان والعراق، تحت نفوذ الإدارة الإنكليزية "الانتدابية بقوة عصبة الأمم" والتي أبرمت مع مؤسس الدولة اتفاق التأسيس.
وقد نجح الأمير عبدالله الأول في تأسيس الدولة التي استطاع "وهو من يملؤه طموح سياسي يتجاوز حدود إمارته" أن يعلنها مملكة عام ١٩٤٦، وقد ضم إليها عام ١٩٤٩على صيغة وحدة فدرالية الضفة الغربية من نهر الأردن، وتأسس الدستور بعد ذلك عام ١٩٥٢ (وهو أساس الدستور القائم حاليا) على تلك المملكة بضفتيها الشرقية والغربية.
هذا استعراض تاريخي موجز، يمكن لأي كان أن يجادل في تفاصيله ويدفع باتجاه مآرب الملك عبدالله الأول وسياساته كيف شاء، لكن لا يستطيع احد أن يتجاوز "حجر الأساس" القومي للدولة، وأنها على الأقل حملت مشروعا لم يكتمل بعد ذلك في صيرورة تاريخية فرضت نفسها من خلال معطيات الإقليم المتأزم نفسه.
كانت دولة الملك عبدالله الأول محاصرة دوما بالمؤامرات السياسية "الشقيقة"، وفي عام ١٩٥٠، اغتال متطرفون من الضفة الغربية "وبتواطؤ عربي"، الملك عبدالله الأول ليرث العرش ابنه الملك طلال، وهو الذي يستحضر الأردنيون تاريخه القصير في الحكم كحالة بطولية غامضة مليئة بالملابسات والضبابية، فلا أدبيات موثقة تعزز مصداقية الحكايا عن الملك طلال وقد انتهى معزولا بقرار برلماني أردني مشفوعا بأسباب مرض نفسي قيل إنه يعاني منه، لكن اسمه ظل حتى اليوم مرتبطا بالدستور المعمول به حاليا.
ورث الملك حسين عرش جده "وكان شخصيا ربيب جده متأثرا به وقد حضر اغتياله في القدس" في عمر يافع، وهو الملك الذي في عهده وبقيادته المنفردة بامتياز، بنى الأردنيون دولتهم ومن السذاجة حين نقرأ التاريخ أن نتوهم الرجل السوبرمان الذي بنى الدولة وحده، فهناك فريق هائل من السياسيين والموظفين "مدنيين وعسكر" من سيدات ورجال " ومن الضفتين" كانوا حول الملك الراحل ويعملون معه في هذا البناء المتراكم لدولة كانت دوما ومنذ اللحظة الأولى لتأسيسها محاصرة بالأزمات، وكان هؤلاء جميعا تلك الإدارة التي تنوعت وتباينت في مراحلها المتعاقبة، لكنها في المحصلة عبرت بالدولة "وكل مكوناتها" عبر المئة عام الأولى.
مات الملك، عاش الملك
تلك جملة مكثفة جدا تختصر تجربة عشتها شخصيا، أنا القادم من جيل لم يعرف سوى الملك حسين رأسا للدولة حتى عام ١٩٩٩، ليرث العرش ابنه البكر، عبدالله الثاني، في تغيير مفاجئ لولاية العهد قبل وفاة الملك الراحل بقليل، فيؤول العرش إلى الأمير الذي أعلن أكثر من مرة بنفسه أنه تفاجأ ولم يتوقع أن يكون ملكا على الدولة التي استمرت، وفي عهده هو شخصيا تحتفل الدولة بمئة عام على تأسيسها.
كل الذين راهنوا على "زوال" الدولة الأردنية انتهوا بدولهم "الشخصية" وبقيت الدولة الأردنية رغم كل ما وصفوه بها طوال قصف تاريخي مستمر، وذلك يشمل "مناضلي الثورة" الذين رأوا يوما أن تحرير "عمّان" يجب أن يسبق تحرير "تل أبيب" فانتهوا في رام الله برعاية "تل أبيب" مخاتير سلطة منتهية الصلاحية.
دولة وظيفية؟
نعم، هكذا كانت منطلقات ورؤية القوى العظمى التي كانت أيضا تعمل على تشكيل وصياغة كل الدول الوظيفية المجاورة في المشرق، ومن بينها إسرائيل نفسها. واستمر الأردن كدولة ما بعد الوظيفة ومن وظفوها، لتنشأ فيها المؤسسات والتشريعات، وفعليا فإن غالبية الدول في العالم الحديث كانت "وظيفية" تخدم مصالح الدول الكبرى (من ضمنها المملكة البلجيكية التي هاجرت إليها وأعيش فيها وهي اليوم من دول العالم الحر).
دولة رجعية؟
وتلك كانت تهمة إذاعات الدول "التقدمية" الشقيقة، وقد انتهت تقدميتها بثورات شعوبها على حكم الحديد والنار فيها.
وكثير من اتهامات للأردن - الدولة، تبرر ما سبق وذكرته في مقدمة مقالي، أن عندي اعتزاز بفكرة مئوية الدولة وأنا أسترجع ما تيسر لي من معرفته في تاريخها.
تلك الدولة الرجعية – على فقرها الاقتصادي وقلة مواردها الطبيعية- هي اليوم أكبر ملاجئ الأمان لضحايا "الأنظمة التقدمية" ولا يمكن أن نقارن ما تقدمه دول اللجوء في أوروبا المترفة برفاهها الاجتماعي والاقتصادي مع ما يقدمه الأردن "المتخم بأزماته الاقتصادية وفقره المائي " لمجموع اللاجئين.
اعتزاز لا أنكره، كما لا أنكر تلك الغصة في الحلق، على ما يمكن أن يؤول إليه الحال في اليوم الراهن وأنا أراقب تعثر إدارة الدولة الراهن أمام الأزمات الداخلية والخارجية والذي لا يمكن تجاوزه إلا باستعادة دولة المؤسسات وتعزيزها، باستحضار القانون وإعادة الدستور كناظم لكل مناحي الحياة، وإنهاء حالة الاختيارات "الدونكشوتية" في محاربة وقتال طواحين الهواء لإثبات "العبث الوطني" لا أكثر.
لا بد من وقف فوري لمنهجية تشويه ومسخ وتزوير الوعي المجتمعي، وإعادة تأسيس الوعي على أسس معرفية لا دجل عادات ولا عقائد ومشايخ فيها، ولا شعوذات كهنة من كتاب وإعلاميين و"عرضحالجية" التزوير التاريخي.
تلك دولة فقدت، في منتصف مسيرتها في المئة عام الأولى، نصف جغرافيتها في الضفة الغربية، وهي التي حتى اليوم تحمل مبررات البقاء والاستمرار كدولة حديثة وحقيقية مدنية "بيضاء من غير سوء الدجل الديني والشعوذة الاستبدادية".
لكن فقط كدولة مؤسسات وقانون، بإدارة تستعيد ذاتها وحضورها بذات الثقة التي بدأت بها الدولة بالوعي والمعرفة، أزمة الأردن إدارية – وهي خطيرة – أما أزمته الوجودية المتوهمة تجاوزها الأردنيون منذ مئة عام.
ليس المطلوب مثلا استعادة "دولة قومية" فنجاح الدولة الأردنية لم يكن محصورا بذلك، بل بمفهوم الكفاءات في إدارة الدولة والتي كانت كفاءات وظيفية تتجاوز "الشخصنة" ومعايير الولاء المزاجي.
من هنا، فالأسئلة التي يجب أن يتم طرحها على طاولة البحث والنقاش "الموضوعي والحقيقي" تتجاوز القراءات التاريخية غير المجدية إلى قراءة الواقع الحالي للدولة وإدارتها بكل ما في ذلك من تفاصيل واجبة البحث والنقاش، والتاريخ هنا لا يمكن قراءته من باب المناكفة بل من باب الاستناد عليه لمعرفة مواطن الخلل أو مفاصل التحول التي يعيش الأردن وبمشقة بالغة مخرجاتها اليوم.