لا زالت معي تلك الذكرى القريبة، الخميس 24 فبراير 2022. صباح ذلك اليوم جاءتني مكالمة من صديق يقيم بفرنسا. ومن دون تحية أو سلام بادرني بالسؤال:
[- أين أنت الآن؟. كان جوابي سؤالا: - على السلامة.. هل وصلت؟ ومتى عدت؟، وكان رده: - إنها هي من وصلت الآن..، - هل تقصد المدام؟، - إذا شئت.. إنها السيدة حرب، وقد حلّت والناس نيام، إنها ستعتني بكل أحوال العالم...].
تعمدت الضحك. لاعتقادي للوهلة الأولى أنها مزحة، وإن كانت ثقيلة من صديق لم أعرفه إلا ساخراً، صاحب نكتة وغاوي مزاح. لكن الرجل سارع إلى إنهاء المكالمة ونصحني بجدية أن أفتح التلفزيون على الفضائيات الإخبارية..
- ستتفرج على أخطر برنامج من برامج "تلفزيون الواقع" يبث اللحظة مباشرة...
فكرت لحظة في إهمال الموضوع ثم تراجعت، لأجدني جالسا أمام شاشة التلفزيون، أتابع المشاهد القادمة من أرض المعارك. صور القصف الجوي والضربات الصاروخية الروسية الأولى على أوكرانيا، قصف يستهدف القواعد العسكرية والمطارات والمدن الرئيسية في أوكرانيا، وضمنها طبعا العاصمة كييف.
تابع العالم فلاديمير بوتين وهو يعلن عما أسماه بـ"عملية عسكرية"، غايتها "تجريد أوكرانيا من السلاح واجتثاث النازية منها"، كما صرح الرئيس الروسي أنَّ روسيا تسعى إلى "نزع السلاح" من أوكرانيا، داعيا الجنود الأوكرانيين إلى إلقاء أسلحتهم.
يومها حبس العالم أنفاسه، فهذه هي أخطر الحروب على الإطلاق منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وفرضية اللجوء إلى استخدام الأسلحة النووية أكثر من واردة، بل صارت أَقْرَبُ إِلَى العالم مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، فلا يوجد هناك أدنى شك في مخاطر الحرب النووية وتأثيراتها المدمرة والبعيدة المدى على الكون والإنسان، مهما كانت قوة التفجير النووي متدنية أو انخفض مستواها. خصوصا بعد التهديدات النووية الروسية التي أطلقها الرئيس فلاديمير بوتين عند اندلاع الحرب. الأمر الذي زرع الخوف في أوصال العالم وأطرافه، وأرجأ الانخراط المباشر لحلف الناتو في النزاع العسكري المحتدم. وإن صدحت أصوات غربية منبهة إلى عدم الاستسلام للابتزاز النووي الروسي، إذ لن يؤدي إغماض العين إلا إلى زيادة جرأة بوتين.
ورأت مراكز قرار أخرى أن العمل يقتضي تفعيل استراتيجيات الردع النووي، والذهاب صوب البحث عن إرساء توازن دقيق، مع الحفاظ على هذا التوازن. هكذا، وفي حالة تتأرجح ما بين الرعب والطمأنينة فهم الغرب أن التهديدات النووية المتكررة لبوتين ليست محصورة ضد أوكرانيا، بل هي موجهة أساسا لحلف الأطلسي. وفلاديمير بوتين نفسه سارع إلى التصريح بأن تهديده النووي "ليس من باب الخدعة"، لذلك فإن قعقعة السيوف قد تأخذ أحيانا أصواتا غير واضحة، وتظل مفتوحة على مصراعي الهشاشة والضعف وصلابة القوة وحماقاتها في آن.
انقضى أسبوع وشهر تلته أشهر، ثم دارت فصول السنة الأربعة، ولم تحسم الحرب بعد أو تضع أوزارها. كان الاعتقاد لدى كثيرين أن موسكو قادرة على إلحاق الهزيمة بكييف في أقصر وقت، لكن الأحداث أكدت مغزى المأثورات التاريخية العربية القديمة، إن "الحرب سِجال"، فحتى اليوم لا غالب ولا مغلوب. خاصة وقد تجند الغرب ممثلا في الحلف الأطلسي بتسليح القوات الأوكرانية ومدها بالعتاد العسكري واللوجيستيكي المتطور، والعمل على محاصرة أخطار الحرب، للحؤول دون تحولها السريع إلى حرب إقليمية واسعة النطاق قد تؤدي إلى حرب نووية شاملة.
لا ريب أن هذه الحرب لها تداعياتها العالمية الكبرى، وبالأساس على المنطقة العربية والقارة الأفريقية، ولهيب نيرانها امتد إلى أقصى بلدان المعمورة، فأحدث أوارها أزمة كبيرة في الطاقة، انعكست بوضوح على العلاقات الجيواستراتيجية بين الشمال والجنوب. وقد رأينا كيف تغيرت الأولويات والمصالح المشتركة والتحالفات، وكيف أصبحت البنادق تستبدل من كتف لآخر، والغاية التي لا تتقدم عليها غاية في هذه المساعي مجتمعة، هي اللهاث وراء تأمين الطاقة. والأمثلة في هذا المجال كثيرة.
"إذا لم تكن مهتمًا بالحرب، فإن الحرب مهتمة بك". كم تنطبق هذه المقولة الحكيمة التي تروى على لسان الزعيم ليون تروتسكي (وهو بالمناسبة أوكراني الأصل)، على ما يعيشه العالم اليوم، فقد مسَّت تداعيات الحرب الروسية - الأوكرانية جيوب الناس وعيشهم اليومي في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، ونشرت الرعب في أوصال الأوروبيين المذعورين من برد الشتاء ونار الصقيع.
ومع اكتمال عام على الحرب، بدأنا نشهد اشتعال حروب اجتماعية بأكثر من بلد، من ضمنها المغرب، الذي لا زالت حتى اليوم تخرج به مظاهرات ووقفات احتجاجية تندد بارتفاع الأسعار والغلاء.
عاش المغاربة الحرب الروسية في أوكرانيا قبل اندلاعها في يوم 24 فبراير 2022، فمع بداية تسرب رائحتها، انطلقت عمليات إجلاء الطلاب المغاربة الذين كانوا يتابعون دراساتهم العليا في مختلف التخصصات بالمعاهد والجامعات الأوكرانية، وذلك عبر تنظيم عدد من الرحلات الجوية القادمة من مطارات وارسو وبوخارست والدول المجاورة. إذ كان بأوكرانيا حوالي 13 ألف من الطلاب المغاربة، شكلوا أكبر جالية أجنبية بهذه الجمهورية التي كانت تعد واحدة من أكبر جمهوريات الاتحاد السوفياتي المنهار، كما شكلوا أكبر جنسية أجليت من ذلك البلد بعد مواطني أوكرانيا. وحتى خلال الأيام الأولى للحرب توالت عمليات إجلاء المغاربة عبر مختلف المراكز الحدودية، في هذا الصدد يروي الطلبة المغاربة الناجون قصصا وحكايات إنسانية عاشوها جديرة بأن تحكى.
ويوما بعد يوم أخذ الناس في المغرب يتكيفون ويتآلفون مع أخبار الحرب، ولم تعد أوكرانيا تفصلها عن المغرب آلاف الكيلومترات، بل صار أكثرهم، يحفظون إضافة إلى العاصمة كييف، أسماء المدن والمناطق في أوكرانيا، لفيف وخاركيف وأوديسا وماريوبول، ولوغانسك وزابوريجيا وغيرها، ويعرفون أهم الإثنيات المشاركة في الصراع العسكري من روس وشيشان وبيلاروس. وكذا بعض أسماء ورتب القادة العسكريين والسياسيين في الجبهتين.
إلا أن الشهر الثاني من أيام الحرب سيحمل معه أنباء عن مشاركة بضعة شباب من أمهات أوكرانيات وآباء مغاربة. قبل وصول خبر أَسْرِ طالب مغربي من أبوين مغربيين، تم توقيفه وهو يقاتل مع الأوكران، وتابع الرأي العام المغربي بانشداد قصة الطالب الشاب الصغير إبراهيم سعدون، الذي وصل كييف لدراسة علوم الفضاء، ولم تكن معروفة ملابسات انتقاله إلى جبهة القتال. وقد جرت سريعا محاكمة إبراهيم سعدون أمام محكمة عسكرية استثنائية في جمهورية دونيتسك الشعبية المنفصلة عن أوكرانيا والموالية للروس، ثم حكم عليه برفقة بريطانيين اثنين بالإعدام. وقد حظي سعدون بتعاطف الرأي العام مغربيا وعربيا، ولم تهدأ الأمور إلا بعد تدخل القيادة السعودية والإفراج عنه، وعودته سالما إلى أهله في مدينته الدار البيضاء، واستقبل في المطار استقبال الأبطال!
وكانت وقفات احتجاجية نظمت أمام السفارة الروسية بالرباط وقنصليتها بالدار البيضاء، تنديدا بالغزو الروسي. شارك فيها بعض المواطنين والمواطنات الأوكرانيين، يساندهم مغاربة.
إلا أن فئات من المثقفين والمنتمين إلى تيارات اليسار في المغرب، شأنهم في ذلك شأن جزء هام من اليسار العربي، لم يخفوا تضامنهم مع روسيا وفلاديمير بوتين، وفي قراءة غير واقعية للأحداث وللتاريخ والمستقبل، بدا وكأن بعضهم وجدها فرصة سانحة للحلم باستعادة أمجاد الاتحاد السوفياتي. علما أن موقف المغرب الرسمي كان في البداية مترددا واتخذ موقفا ملتبسا، فالرباط تغيبت عن جلسة التصويت على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي يدين الغزو الروسي في 2 مارس 2022. ولم تكن ترغب في خسارة موسكو، ربما لاعتقادها أن عليها أن تتريث قليلا في انتظار جلاء الأمور ومعرفة إلى أي مدى ستتحول مجريات الأحداث. لكن التطورات سارعت بالمغرب إلى الإفصاح عن موقفه واصطفافه بجانب الغرب، وقد رفض التعامل مع جمهورية دونيتسك التي حاكمت المواطن المغربي إبراهيم سعدون.
في الوقت الذي لم تعد فيه أوكرانيا بعيدة عن المغرب، (عبر الجالية الطلابية المغربية)، كانت روسيا من زمن ليس باليسير أقرب إلى الحدود المغربية، وذلك بفضل تحالفها مع الجار الجزائري، وهو تحالف قديم بين البلدين يعود تاريخه إلى الحقبة السوفيتية، حيث استفادت نخبة كبيرة من الأطر الجزائرية، منهم كبار ضباط الجيش، من بينهم رئيس الأركان الحالي سعيد شنقريحة، من الدراسة والتدريب في الاتحاد السوفييتي. وهو ما تسعى روسيا اليوم لتعزيزه وتقويته واستغلال أهميته الحيوية في السيناريوهات القادمة. وهو أيضا ما لا يجب إهماله عند تناول النزاع حول الصحراء الغربية وتطوراته المحتملة بين الجزائر والمغرب المصطف في المحور الأميركي، وحيث يعرف الجاران سباق تسلح فائق لا يمكن إلا أن يشكل مصدر قلق كبير في المنطقة والعالم.
تبقى سيناريوهات إنهاء الحرب الروسية في أوكرانيا حتى الآن غامضة ومفتوحة في آن على تداعياتها المتواصلة، وعلى رياح الأزمات التي تعصف بأوروبا والعالم. وهي تداعيات يؤكد خبراء أنها ستستمر لسنوات أو عقود. ستعيد نتائجها تشكيل النظام العالمي، والتمهيد لانبثاق مشهد جيوسياسي عالمي جديد.
إنها الحرب لا تنتهي حتى تكتب مستقبل العالم بحبر نهاياتها.. أو كما قال لي صديقي في بداية هذه السطور: "الحرب ستعتني بكل أحوال العالم".