دخلت العلاقات الإيرانية – الروسية مرحلة استراتيجية جديدة، كنتيجة للأزمة الأوكرانية، حيث تتعاظم الشواهد على مضي طرفيها في تخطي المحاذير والحواجز التي كانت تكبح جماح هذه العلاقة، وتقف بها عند حدود الممكن والمتاح دوليا، وفقا لحسابات المصالح وديناميات القوة بين كبار اللاعبين الدوليين.
وأصبحت هذه القضية، واحدة من ثلاث قضايا خلافية عميقة تباعد ما بين إيران ودول الغرب وعلى رأسها الولايات المتحدة، إلى جانب برنامج إيران النووي والصاروخي ودورها الإقليمي، والاحتجاجات الشعبية التي شهدتها البلاد خلال الأشهر الماضية، وكيفية تعامل سلطات طهران معها.
صحيح أن روسيا وإيران احتفظتا بعلاقات متميزة خلال سنوات وعقود، لكن هذه العلاقات ظلت مثقلة بهواجس التاريخ، ومحكومة بالتنافس بدل التكامل، وفي عديد الملفات، ومن ضمنها الملف السوري، حيث نجح البلدان حينا وأخفقا أحيانا، في إدارة وتنظيم خلافاتهما وتباين أولوياتهما في ساحة تعد حيوية لكل منهما. وشيئاً فشيئاً، وعلى وقع تطورات الأزمة الأوكرانية والتردي الذي لحق بمسار فيينا النووي الإيراني، بدا أن موسكو بصدد القفز من فوق حذرها التقليدي في التعامل مع إيران، مثلما بدا أن إيران ماضية في "التوجه شرقا" والتخلي عن شعارها الأثير الذي رافق ثورتها الإسلامية منذ اليوم الأول: "لا شرقية ولا غربية".
ثمة قدر كبير من المبالغة عند القول بأن البلدين بصدد إنجاز "حلف استراتيجي"، وهو قول يصدر عادة عن دوائر غربية، وليس ثمة في التاريخ ولا في "الجيوبوليتك" ما يدعمه، لكن المؤكد أن علاقات طهران بموسكو، لم تكن يوما بهذه القوة والمتانة، ليس قبل الثورة الإسلامية ولا بعدها.
البلدان يرزحان تحت نير نظام صارم للعقوبات، غير مسبوق بمثله في التاريخ، والنظامان يستشعران استهدافاً من قبل "الناتو" والدوائر الغربية، ولكل منهما حاجة ماسة للآخر، إيران أصبحت مورّداً رئيساً لبعض أنوع السلاح لروسيا، "المسيّرات" بخاصة، وطهران تطمح لتحديث منظوماتها العسكرية، سيما الجوية والبحرية منها. طهران نفت بشدة تورطها في تقديم السلاح لروسيا في أشهر الحرب الأولى، قبل أن تكف عن تكرار النفي والتكذيب، وموسكو تنظر بـ"عين العطف" لطلب إيران تحديث بعض قطاعاتها الدفاعية، وكلا البلدين، يعتمد بصورة أساسية على قطاع النفط و"الهيدروكربون"، وكلاهما بحاجة لتبادل الخبرات في تخطي نظام العقوبات، والاتجار مع العالم الخارجي، كشرط للبقاء والاستمرار، يضاف إلى ذلك، أن كلا البلدين، لا يولي اهتماماً كبيراً بقضايا "حقوق الإنسان" و"منظومة القيم" في علاقاته الخارجية، وهو المتهم أصلاً بانتهاكها في علاقاته الداخلية مع معارضيه.
وكلما اتسعت الشقة بين الغرب وروسيا في أوكرانيا وعليها، وكلما ابتعد المفاوضون في فيينا عن خط "النهاية السعيدة"، فإن من المتوقع أن تزداد العلاقات بين البلدين، متانة وحيوية، وبصورة تعظم فرص بناء شراكات استراتيجية متعددة المجالات والأغراض بينهما.
على أن طريق طهران وموسكو لبناء "حلف استراتيجي"، لا يبدو سالكا تماما أو خاليا من العقبات، فمن جهة أولى، يصعب على موسكو دون أن تقامر بعلاقاتها مع إسرائيل، أن تذهب بعيداً في تزويد إيران بأنظمة دفاع جوي وطائرات مقاتلة حديثة وغواصات متطورة، مثلما سيصعب على إيران، إبداء مزيدٍ من الثقة بروسيا، وهي التي منحت عدوتها اللدودة، إسرائيل، ضوءً أخضر لملاحقة إيران في سوريا، وإصرارها على إسكات راداراتها وصواريخها المضادة للطائرات والصواريخ المنتشرة على الأرض، والتي بمقدورها أن تقيم سدّاً منيعاً في وجه "الاستباحة" الإسرائيلية للأجواء السورية.
وإذا ما صرفنا النظر عن "العامل الإسرائيلي" في تشكيل مستقبل العلاقات بين إيران وروسيا، فثمة عامل آخر، لا يقل أهمية، من شأنه أيضاً أن يسهم في رسم حدود هذه العلاقات وتشكيلها، وهنا يبرز القلق السعودي/الخليجي من تطور هذه العلاقات، بوصفه واحداً من التحديات التي يتعين على موسكو أخذها بنظر الاعتبار وهي تتجه لتعميق تحالفها مع إيران. موسكو راغبة في تطوير علاقاتها مع السعودية ودول الخليج، لأسباب عديدة، منها استمرار العمل بصيغة "أوبك بلس" للتأثير على سوق الطاقة وأسعارها وكميات انتاجها، والإمارات باتت ملاذاً كبيراً للروس الأغنياء ورساميلهم، التي تهرب من الملاحقة الغربية، وفوق هذا وذاك، فإن موسكو تنظر للخليج بوصفه ميداناً للمنافسة مع الغرب، بدأت تسجل على أرضه، بعضاً من النقاط على حساب واشنطن وحلفائها.
لإيران مصلحة في "عدم هزيمة" روسيا في الحرب الأوكرانية. سيناريو كهذا يُبقي إيران وحيدة في مواجهة الضغوط الأميركية – الغربية. بيد أن سيناريو "روسيا المنتصرة"، سيضعف مكانة إيران التنافسية في مواجهتها، ليس في سوريا والشرق الأوسط فحسب، وإنما في آسيا الوسطى والقوقاز وبعض جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق كذلك. وربما لهذا السبب بالذات، نرى طهران، تعمل على إضفاء قدر من التوازن في علاقاتها مع موسكو، من خلال تطوير علاقاتها متعددة الأوجه المجالات مع بكين، سيما بعد أن خسرت الرهان على ما يبدو، في انتهاج أوروبا موقفاً مستقلاً حيالها، وبعد عودة الروح للرابطة الأطلسية على نحو يذكر بما كانت عليه في ذروة الحرب الباردة. في هذا السياق، يمكن فهم زيارة الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، الأخيرة لبكين والحديث عن صفحة جديدة من العلاقات الثنائية بين البلدين.
يبقى أن نافذة الفرص لم تغلق تماما بعد في وجه احتمالات استئناف التفاوض بين واشنطن وطهران، سيما بوجود وسطاء نشطين من دول المنطقة، سيما قطر وعُمان، مع أنها تكاد تُستنفذ تماماً، وإذا ما حصلت "المعجزة"، وعادت الأطراف إلى مائدة المفاوضات، فإن من المرجح أن تفقد طهران، بعضا من شهيتها المفتوحة لتطوير "حلف استراتيجي" مع روسيا.
وهو أمرٌ محتمل كذلك، إذا ما وضعت الحرب في أوكرانيا أوزارها في المدى المنظور، وهو سيناريو يبدو مستبعداً، أو على الأقل، لم تنضج شروطه بعد، فالوقت الآن في أوكرانيا كما قال قادة غربيون على هامش مؤتمر ميونيخ للأمن، الجاري حالياً، ليس للحوار أو التفاوض، بل لإضعاف روسيا واستنزافها، حتى لا نقول إلحاق الهزيمة بها، وإعادة رسم الخرائط على الأرض كما كانت عليه قبل 24 فبراير 2022، أو ربما كما كانت عليه قبل العام 2014.