علم حزب الله اللبناني. صورة تعبيرية
علم حزب الله اللبناني. صورة تعبيرية

عندما كنت أستعد لكتابة هذا المقال، جاءنا خبر من الجنوب، ومن منطقة الجية – برجا تحديدا (حيث غالبية سكان المنطقة هناك من السنة والمسيحيين)، أن فرقة من حزب الله تقوم بدورية في شوارعهما وللمرة الأولى.

عُدّت الحركة استفزازية وغير معهودة. لكن السكان رفضوا التعليق على الأمر، مع اعتراضهم عليه؛ خوفا من إثارة السكان المناصرين للحزب.

ما الحاجة إلى مثل هذا الاستفزاز من تنظيم يزعم أنه "مقاومة ضد إسرائيل"؟ في وقت يحمي فيه حدودها ويرسّمها؟ فيذهب إلى مناطق لا تخص الغيتو (الذي شيّده لنفسه)؟ هل هو نوع من تأكيد الحضور المهتز، على غرار ما حصل في خلدة أو الطيونة من قبل؟

إذا قارنّا هذا السلوك مع سلوك الحزب قبل عام 2000 لوجدنا انقلابا تاما لسلوكه؛ كان حضوره خفيفا ومتعففا ومحصورا بالمقاومة طوال فترة التسعينيات قبل التحرير.

لقد تغيرت صورة حزب الله تدريجيا 180 درجة، من حزب متدين منضبط السلوك والهدف إلى حزب الجريمة المنظمة.

لذا ما كان يمكن إنتاج فيلم "التحقيق المستحيل"، وهو ثلاثية توثيقية أنتجها المخرجان جيروم فريتل وصوفيا عمارة ولا أن يعرض على قناة تلفزيونية فرنسية رسمية، قبل أن تكتمل دائرة انقلاب صورة الحزب رأسا على عقب.

والمخرجة المشاركة فيه، صوفيا عمارة، المغربية التي تزوجت من لبناني، وعاشت في لبنان 22 سنة، قضت منها ست سنوات في قرية جنوبية قبل عام من التحرير وحتى حرب 2006. وكانت كمعظمنا، مع المقاومة ضد العدو الاسرائيلي. 

ظل حزب الله منيعا على النقد بالنسبة لها، ولكثيرين، حتى عام الحرب مع إسرائيل.

يبدو ان أنصار المقاومة ضد إسرائيل، يشعرون بالخيانة عندما يكتشفون أنهم خدعوا من طرف نزّهوه عن كل خطئية، فيصبح نقدهم أقسى.

هكذا يمكن فهم شغف عمارة للقيام بهذه المهمة الصعبة، أي التصدي لكشف وجه حزب الله الحقيقي، الذي خذلها مثلنا جميعا ونجح في تمويه أهدافه الحقيقية من مقاومته لإسرائيل. 

كانت تتابع تغير وظيفته التدريجية، منذ اغتيال الحريري مرورا بهجمته على بيروت والجبل واتفاق الدوحة وانتخاب ميشال عون ووقوفه في وجه الثورة، إلى أن حصل الانفجار الكبير. منع التحقيق وتصدى لكل مطالب بالحقيقة وهدّد قضاة التحقيق علنا. 

سألت صوفيا عمارة نفسها، كالجميع، بعد أن تتبعت عرقلته للتحقيق في جريمة أكبر انفجار غير نووي في التاريخ! لماذا يحرص على هذه العرقلة بكل قواه؟

إضافة إلى أن صورته تتغير أيضا لدى الرأي العام العالمي والمجتمع الدولي والأوروبي خصوصا، من حزب محترم إلى منظمة إرهابية. لكن الرئيس الفرنسي مثابر على مهادنته، حفظا لمصالح فرنسا الاقتصادية، وينفذ شروط الحزب، وهو الوحيد الذي يتبنى مرشحه للرئاسة. فكيف يكون الفيلم عرض بتواطؤ أو دعم فرنسي رسمي؟

مشاهدة الفيلم تؤكد كلام صوفيا عمارة. إنه فيلم مستقل، لا علاقة له بسياسة فرنسا، موجّه في الأساس إلى المشاهد الغربي. إن تحضير هكذا عمل يتطلب جهدا توثيقيا يستغرق الكثير من الوقت، ولقد تم إعداده قبل ارتباك العلاقة الفرنسية بإيران بكثير. كما أن برمجة عرض الفيلم حصلت قبل السياسات المستجدة.

لقد تغيرت صورة الحزب على نطاق واسع، ولأن العقليات تتغير ببطء شديد كضربات ريشة رسام، أتى هذا الفيلم في وقت أصبح فيه الرأي العام المحلي والغربي أكثر دراية بأدوار الحزب وأساليبه؛ وبالتالي مهيأ لتقبل هكذا موضوع. إنها لحظة تجمع عوامل تكشف أدوار إيران وأذرعها الخريبية في المنطقة، خصوصا بعد تحوله طرفاً في حرب روسيا على أوكرانيا وتهديده لأمن أوروبا. وتزامنه مع تحريك قضية المرفأ، لا يعني أنه تم بتنسيق مع بعثة القضاة الأوروبيين. 

كل ذلك يثير بالطبع حفيظة الممانعة ويقلق الحزب.

وبالتالي ليست شيطنة إعلام الحزب وأبواق صحافة وجمهور الممانعة للفيلم، وربطه بمؤامرة مستجدة ضده، سوى بروباغندا تستبق الإدانة الموثقة بشكل جدي لأدوار الحزب في تجارة المخدرات والسلاح وتبييض الأموال.

لم يستجب الفيلم لتوقعات المشاهد اللبناني الذي ظن أن الفيلم نوع من محاكمة ستدين الحزب في انفجار المرفأ. الفيلم لم يحمل جديدا للمشاهد اللبناني المطّلع على ما يجري فيما يتعلق بالانفجار، وجاء ليؤكد ما يرجحه أن الحزب يعمل في تجارة المخدرات والسلاح وأنه من خزّن الأمونيوم. وسرديات كل من مروان حمادة وأشرف ريفي ومونيكا بورغمان (زوجة لقمان سليم) قد سمعناها من قبل.

لقد اعتمد الفيلم سردية لقمان سليم لتسلسل الوقائع في فيديو تلفزيون الحدث قبيل اغتياله. كان لقمان أول من قام بربط الأحداث في كيفية مجيء باخرة الأمونيوم وتزامنها مع العقوبات على بشار الأسد ومن ثم التفجيرات في سوريا مع تواريخها. 

لقد أُعدم لقمان إثر هذا التصريح، الذي كان القشة التي قصمت ظهر البعير. بعد تراكم مآخذهم على نشاطاته.

الانفجار هو المحفز لاختيار فكرة الفيلم، بما أنه تتويج لنشاطات حزب الله في لبنان. لكن أهميته تكمن في شهادات الضباط الأميركيين من جهاز مكافحة المخدرات DEA ودور عملية كاساندر. فخلال متابعتهم لتجارة المخدرات في كولومبيا أدهشهم سماع الكثير من المداخلات باللغة العربية. حينها بدأوا تتبع الخيوط التي سمحت لهم بكشف مدى عمق نشاط حزب الله في تجارة المخدرات والسلاح وتبييض الاموال، موزعا على 4 قارات. وبدأوا يتتبعون ويراقبون حركة دخول الأموال إلى لبنان. وسجلوا قفزة مصرفية كبيرة عام 2002. إنها اموال المخدرات.

كما اكتشفوا علاقته بتفجير سبتمبر 2001، ودوره في محاربة الأميركيين في العراق. عندها اعلنت كاساندر الحرب على الحزب واعتبرت أعضاءه إرهابيين. وكشفوا أدوار من يسميهم الحزب Facilitateur على غرارBosse  للمافيا وTête de cellule للكارتيل. وهم أمثال شاكر حرب وأيمن جمعة أدهم طباجة وعلي فياض الذي كان يوفر السلاح لبشار الأسد. وكلما انكشف أحد هؤلاء كان ينزل تحت الارض، يختفي. ولوحظ انه كلما اشتدت الحرب كلما نشطت تجارة المخدرات.

لم يكن سهلا على رجال DEA جمع مكونات البازل شديد التعقيد، فلقد نشط عملاء الحزب تحت غطاء مئات الشركات والمجموعات الصغيرة وبشكل سري وتوصلوا لجمع أكثر من مليار دولار سنويا.

نجحت الفرقة عام 2015 في الوصول الى الرأس الكبير Parrain الذي ينقل رغبات إيران إلى الحزب. وهو أحد أعضاء العائلة المالكة في قبيلة حزب الله (على حد تعبيرهم)، ويدير أموال الوحدة المالية (أو المجموعة الشبح) لتبييض الأموال من العراق إلى أميركا وأوروبا ولجميع النشاطات غير الشرعيه. إنه عبدالله صفي الدين، اخو صفي الدين وريث حسن نصرالله.

المفاجأة أنهم عندما وصلوا إلى نهاية عملهم وانتظروا مكافأتهم، جاءت لحظة الاتفاق النووي عام 2015 مع إيران، التي كانت تشتكي منهم ومن نشاطاتهم وطالبت أوباما بإبعادهم. أوباما كان يأمل باتفاق طويل الأمد مع إيران معتقدا أن دبلوماسية أميركا ستغير العالم وتجعله أكثر أمنا بهذ الطريقة! فترك المال والسلاح بيد إيران. ما أوصل تهديدها إلى عقر دار أوروبا التي هادنتها طويلا.

وقبل أن يجف حبر الاتفاق جاء روحاني لزيارة باريس، التي لم يزرها أي رئيس إيراني منذ 17 عاما. طبعا عدت الدبلوماسية الفرنسية الزيارة نصرا مبينا.

في اللحظة التي كان فيها فريق DEA على وشك الإعلان عن الرأس الخفي لحزب الله، منتظرا الاحتفال بنجاحه في مؤتمر صحفي؛ ألغي المؤتمر فجأة بتعليمات من البيت الابيض. توقفت عملية كاساندر، وتبعها تحرير علي فياض تاجر السلاح من السجن في تشيكيا وعاد إلى لبنان. لم يصدق الفريق ذلك!!

لقد فشلت الحكومة الأميركية. بعد أن صار الأمر دقيقا للغاية بالنسبة لها، أوقفت كاساندر. يعلق جاك كيللي: كلما صعدنا في السلم كلما صار الأمر أكثر خطورة. ضحوا بالحقيقة على مذبح السياسة، فذهبت أشرب كأس نبيذ أحمر.

دفنت عملية كاساندر على مذبح السياسة الواقعية، من أجل أمل بالسلام مع إيران بدل فضح حزب الله.

أما في ما يتعلق بتفجير المرفأ، فالأضاحي والحقيقة ذُبحوا على مذبح السياسة الدولية وخنقت الحقيقة والعدالة.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.