منذ جمهورية أفلاطون والتّطلّع إلى الفردوس الأرضي يأخذ بألباب كثير من المفكرين
منذ جمهورية أفلاطون والتّطلّع إلى الفردوس الأرضي يأخذ بألباب كثير من المفكرين

يُؤَكِّد كثيرٌ من الباحثين في سوسيولوجيا الأديان أن الإيمان الديني يُقَدِّم وَعْداً طُوباويا بالخلاص الأخروي/ نعيمِ العالمِ الآخر؛ بحيث يجعل من الألم والمعاناة والشقاء في هذا العالم الدنيوي عذابا مُحْتَملا. فالإنسان المؤمن لا يرى هذه الحياة الدنيا كلَّ الحياة، لا يراها البداية والنهاية، بل يراها جزءا ضئيلا عابرا في حياة سرمدية، يراها شوطا واحدا من ملايين الأشواط، يراها لحظة من أزمنة الأبدية المكتوبة على الجبين.

ماذا يعني كل هذا للإنسان المؤمن؟

يعني أن كل ما يحدث في هذه الحياة  من رخاء أو شقاء، هو ـ رغم حقيقته ـ مجرد وَهْمٍ أو هو أشْبُه بالوهم. وفي هذا عزاء؛ وأي عزاء !

ثم هو يعني ـ بالضرورة ـ أن الفردوس المنتظر لن يكون على هذه الأرض، وأن الجحيم الحقيقي كذلك، كلاهما في السماء؛ لا في الأرض؛ مهما انفتحت آلام المُعَذَّبين ـ بالفقر وبالجوع وبالجهل وبالاضطهاد وبالاستعباد ـ على الجحيم. ولا ضير حينئذٍ؛ أن يُحْتَمَل هذا الجحيمُ الدنيوي العابرُ، الهامشي التافه؛ من أجل الفردوس الخالد في السماء.

هذه هي الطوباوية الدينية/ السماوية باختصار. وعلى الضفة الأخرى المقابلة لها ثمة طوباوية أخرى، طوباوية دنيوية/ علمانية/ أرضية؛ ترى أن هذه الحياة هي الحياة استغراقا؛ وليس ثمة ما وراءها. ما يعني أن الشقاء في هذه الحياة هو شقاء كامل وشامل، شقاء حتى آخر رمق، شقاء بلا تعويض، بلا أمل ينتشل الروح من عذابات الجسد التي تفتك بالروح أيضا. كما أن ما يستطيع الإنسان أخذه من هذه الحياة على سبيل الاستمتاع والظفر بأكبر قدر من الرخاء الممكن، هو النعيم حقا، هو النعيم المتحقق على سبيل اليقين وعلى سبيل الاستغراق، هو الفردوس الموعود في الحاضر الموجود. ومِنْ ثَمَّ، فَمَنْ لم يَظفر بحظ من النعيم والرخاء في هذه الدنيا؛ فهو إنسان العذاب والآلام الذي سيخرج من هذه الحياة خاسرا، إذ لا تُوجَد أشواطٌ أخرى قابلة للاستئناف، لا تُوجَد فرصةٌ أخرى ولو على سبيل التخيّل الذي يمنح الأشقياء وَهْمَ عزاء.

منذ جمهورية أفلاطون والتّطلّع إلى الفردوس الأرضي يأخذ بألباب كثير من المفكرين، وكثير من الساسة أيضا. ومنذ ظهور الأنبياء والتّطلّع إلى الفردوس السماوي يذهب بالمؤمنين مذاهبَ شتّى؛ من الرهبنة والانعزال، إلى التبشير والجهاد ومحاولة فرض عقائد الإيمان على الآخرين. وبين هؤلاء (= المؤمنين بالفردوس السماوي) وأولئك (= المؤمنين بالفردوس الأرضي) يقع الإجماع ـ وجدانيا وفكريا ـ على عدم الرضا بالواقع الدنيوي، وتقرير أنه واقع بائس يجب الخروج منه ولو بأعظم التضحيات.

أي هذين الفِردَوسَين له حظ من الواقع ؟ أيهما تَحقّق ؟ وإلى أي مدى تحقّق ؟ وبأي ثمن ؟

واضح أن تقييم تحقق الفردوس السماوي مستحيل. هو في "عالم الغيب"؛ ولا نافذة له عبر "عالم الشهادة" على سبيل الاختبار الإمبيريقي/ التجريبي. ولكن ـ وهو السؤال المحوري هنا ـ هل يفصل المؤمنون حقا بين هذين العالمين: عالم الغيب وعالم الشهادة ؟ ومِن ثَمَّ؛ هل الوَعْد بفردوس سماوي/ أخروي يستنفد أيَّ وَعْدٍ آخر خارج عالمه ؟ أي هل مثل هذا الوعد يكون ـ بالضرورة ـ على حساب أي وعد آخر ؟

بلا شك، مذاهب الرهبنة الكاملة تقول بالفصل وبالتمايز التناقضي القاضي بأن من يتغيّا فردوسَ الدنيا/ الأرضي؛ فليس له حظ في فردوس الآخرة/ السماوي، والعكس صحيح، فمن يتغيّا فردوس السماء، فلا حظ له في فردوس الأرض. ولكن، حتى في مثل هذه الحال؛ أليس استهداف فردوس السماء يكون بعمل راهن على هذه الأرض ؟ وإذا كان الأمر كذلك، أي العمل على هذه الأرض يصنع فردوس السماء، فما طبيعة هذا العمل ؟ أليس ـ في أقل أحواله وأكثرها سلبية دنيوية ـ ترشيدا للسلوك الإنساني بما يعود بالخير على الجميع ؟ أليس هذا الترشيد ـ في حال واقعيته والإخلاص له ـ يصنع ملامحَ فردوس أرضي، أو ـ على الأقل ـ يُقَلّل من حجم الجحيم الأرضي الذي يبلغ أقصى مداه في عدوان الإنسان على أخيه الإنسان ؟  

هذا في حال مذاهب الرهبنة التي يتضح أنها لا بد أن تصل بين فردوس الأرض وفردوس السماء؛ من حيث طبيعة التدين الخالص ذاته؛ رغم تأكيدها على الفصل. أما المذاهب الأخرى، بما فيها معظم مذاهب الإسلام، فهي تشتغل على الراهن الدنيوي/ الفردوس الأرضي؛ في الوقت نفسه الذي تشتغل فيه على فردوس السماء. بل أكثر من ذلك، هي تشترط الفردوسين ببعضهما، فلا سبيل إلى الفردوس الأرضي (مهما عَمَّ الرخاء المادي والاطمئنان المعنوي) إلا بالعمل وفق شروط فردوس السماء. وطبعا، لا سبيل إلى فردوس السماء؛ إلا عبر فردوس الأرض، أي أن يعيش المؤمن "نعيم الإيمان" على هذه الأرض، وهو النعيم الحق؛ رغم كل ما يعانيه من بؤس وآلام. 

في التراث الإسلامي تتردد على ألسنة العُبّاد المُتَزهّدين مقولة: "ثمة جنة في هذه الدنيا، مَن لم يدخلها لن يدخل جنةَ الآخرة"، ويقصدون أن ثمة سعادة هائلة بالإيمان، لا تتحقق إلا للمؤمن الحق، وتزدهر مفاعيلها بأعماله الصالحة التي تعود بالخير عليه وعلى مجتمعه. وهذه السعادة الهائلة لا بد وأن تغمر كل أنواع الشقاء الدنيوي المعاش، فلا يشعر المؤمن معها بأي شقاء، أي يعيش فردوس الأرض الذي هو ـ وفق هذه الرؤية ـ شرط الظفر بفردوس السماء.

في الإصلاح الديني البروتستانتي، الكالفيني خاصة، جرى الربط بين سعادة الدنيا وسعادة الآخرة، بين نجاح الدنيا ونجاح الآخرة. فبعد أن كان الاشتغال بالنجاح الدنيوي رذيلة؛ على اعتبار أنه انصراف عن العمل للآخرة، أصبح ـ وفق هذا الإصلاح ـ فضيلة؛ على اعتبار أن التوفيق/ النجاح في هذه الدنيا دليل على التوفيق/ النجاح في الآخرة، أي أن القادر على تحقيق ملامح فردوس أرضي آني، هو المستحق ـ بصورة أولية ـ لفردوس السماء.   

في اعتقادي أن هذا الربط البروتستانتي/ التّطهّري بين الفردوسين: فردوس الأرض وفردوس السماء (وثمة ملامح مشابهة له في الفكر الإسلامي) هو الذي خَفَّف حدة التناقض بين الفردوسين عبر التاريخ. وهو بذاته الذي يقضي بأن ليس ثمة مسارات دينية خالصة؛ كما أن ليس ثمة مسارات علمانية خالصة؛ إذ ما أريد للديني وللعلماني أن يعملا حقا ـ كُلٌّ بطريقته ـ على اجتراح مسارات تستهدف انتشال الإنسان من جحيم الحياة: من جحيم الشقاء الإنساني الملازِم.   

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.