حفل زفاف للحريديم كان من الممكن أن يحضره 10 آلاف شخص في بروكلين
تجمع لطائفة الحريديم في نيويورك. إرشيفية.

أثناء جولات مناقشة تشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة، وعد رئيس الوزراء الإسرائيلي المخضرم بنيامين نتنياهو زعماء طائفة "الحريديم" اليهودية بالسعي لبناء مدينة خاصة بهم، تُطبق فيها مجموعة من القوانين والتشريعات المدنية والجنائية والاقتصادية والرمزية الموافقة لعقائد أبناء هذه الطائفة، تكون كحل واستجابة لمطلب تقليدي لأبناء هذه الطائفة في إسرائيل، حيث يجد قادتهم الروحيون وزعمائهم السياسيون صعوبة ورفضاً للاندماج والقبول بالقوانين العمومية والتشريعات المدنية في إسرائيل. 

الخطوة/التجربة المزمع القيام بها، ستكون أضافة إلى طيف واسع من التشريعات الخاصة التي أُقرت لصالح، وكان يتمتع بها، أبناء هذه الطائفة في مجالهم الخاص في إسرائيل: مثل تخصيص 3 بالمئة من سواحل إسرائيل لتكون خاصة بهم ومطابقة لفروض شرائعهم الدينية، وعدم إجبار أبنائهم على الانتساب للخدمة العسكرية الإجبارية، أو موافقة المحكمة الدستورية العليا في البلاد على بعض القوانين البلدية الخاصة بمشاريعهم العقارية ونشاطاتهم الاقتصادية، بما في ذلك الحق في العمل يوم السبت، وتقديم الدولة تمويلاً خاصاً لمدارسهم اللاهوتية.. الخ.  

لا يبدو ذلك حلاً مثالياً بالنسبة لنوعية من النُخب الثقافية والسياسية المدنية، التي ترى وتعتقد أن الدولة بمؤسساتها ووثائقها وشرائعها يجب أن تكون مجردة وعمومية شرطاً، لا تمايز بين مجموعة من المواطنين وآخرين منهم، طبقاً لعقائدهم أو تبعاً لهوياتهم أو جماعاتهم الأهلية، القومية والدينية والمناطقية واللغوية. فالدولة في المحصلة، حسب هؤلاء، هي الجهاز التشريعي والوظيفي المتعالي عن أية تمايزات ثقافية أو عقائدية أو عرقية، تبني أواصرها مع أمة المواطنين حسب هويتهم المواطنية وبناء على تعاقد مدني معهم، قائم على مجموعة من الفروض والواجبات المدنية فحسب.  

لكن، ومع كل الاعتبار لمثل تلك النزعات "المثالية"، إلا أن السؤال الذي يحضر بالمقابل مباشرة: لكن ماذا لو كان ثمة كتلة وتشكيل مجتمعي ما ضمن هذه الدول، مبني على نوعية من العقائد والنزعات الخاصة، التي لا تقبل اندماجاً تعتبره تفكيكاً لأواصر هوياتها الثقافية والعقائدية الخاصة، تخاف منه وتصنفه كمحاولة لتجريدها من خصوصياتها وما تصنفه كعالم داخلي لها، غير متعارض مع قيم العيش والسلام الاجتماعي مع الآخرين؟ خصوصاً، وإن هذا التشكيل الاجتماعي قد يكون شديد المركزية حول عقائده الخاصة تلك، وتالياً قابلاً للصِدام وتعكير الفضاء العام، في حال عدم الاعتبار والتقدير لما يقوم عليه ويعتقده، ولو بشكل نسبي.  

بهذا المعنى، فإن مختلف دول منطقتنا، بالذات تلك التي تقوم مجتمعاتها على طيف من التشكيلات الدينية والعرقية والطائفية والمناطقية واللغوية الخاصة، تفوق هوية كل واحدة منها وانتماء أبنائها لتلك الهويات الأهلية، ما ينتمون به إلى الدولة وقيمها وفضائها المدني المجرد، المفترض، فإننا أمام واحد من حلين غير مثاليين:  

أما القهرية/المدنية، إن جاز التعبير، كما في عدد من دول المنطقة. تلك الدول وأنظمتها الحاكمة، التي تستبطن في سلوكها الفعلي ووعيها الباطن كتلة كبرى من النزعات الطائفية والقومية والثقافية، التي تفرضها على الجماعات الأخرى، بدعوى المدنية والعلمانية وحق الدولة في فرض خيارها.  

أي، فعل أشياء شبيهة بما تفرضه دولة مثل سورية في قوانينها وأنظمتها التعليمية والقضائية والتشريعية من خيارات وإيديولوجية إسلامية سُنية عروبية على باقي أبناء الطوائف والقوميات والأديان الأخرى في البلاد، منذ تأسيس الكيان وحتى الآن، وإن تحت يافطة مدنية الدولة وعمومية قوانينها وأفعال مؤسساتها. أو كما يجري من فرض لإسلامية شيعية نظيرة في العراق، أو عروبية إسلامية في مصر. فكل واحدة من هذه الكيانات، أنما تحتوي نواة صلبة ما، هي بالأساس جماعة أهلية بعينها، تطبق فعلياً رؤيتها وخيارها الطائفي والديني والعرقي، وتفرضه على الآخرين، وإن بلبوس التشريعات المدنية العمومية الدولتية.  

ذلك الخيار الذي كشف، في أمثلة لا تُعد، أنه يؤدي فعلياً إلى اندلاع الحروب الأهلية، التي تأتي كنتيجة للحروب الأهلية الباردة، التي تتراكم طوال سنوات وعقود من فرض تلك العقائد المركزية على الآخرين، وإن بعناوين وشعارات مدينة. 

الخيار الآخر، قائم على منح أبناء هذه التشكيلات الأهلية أعلى وأوسع مساحة من ممارسة ما يعتبرونه خياراتهم وثقافتهم وعقائدهم الخاصة في مجالات خاصة بهم، وإن برزمة كُبرى من الشروط والمحددات، التي تحفظ من جهة بعض الحقوق الأساسية للدولة، كجهاز وجهة حامية وحافظة للسلام الاجتماعي والاستقرار الدائم، ومن جهة أخرى حفظاً للحقوق الأساسية والعامة لأفراد هذه الجماعة نفسها. وطبعاً حماية للكل المجتمعي والدولتي مما قد تفعله هذه الجماعة في مجالها الخاص، والذي قد يعترض مع حريات وحقوق الآخرين.  

فمثلاً، يمكن للدولة التي تعطي مثل هذه الجماعات تلك الحقوق، يمكن لها أن تفرض عليهم الإقرار بحق أي فرد منها بالخروج و"التحرر" من فروضها، وحماية أي منهم من العنف والإكراه، وإلزامهم بعدم انتهاج أية سلوكيات وعقائد تدعو للعنف والكراهية والنبذ، وقبولهم العمومي بحقوق الآخرين بممارسة عقائدهم ووظائفهم العمومية دون أي تمييز، وخضوع الكل للجهاز القضائي المدني في حال حدوث تعارض ما بين مجالهم الخاص والمجالات الأخرى.  

لا ينبع القبول بمثل تلك النماذج وآلية الفعل السياسي من أية رغبة بزيادة مستويات وشرعنة انغلاق الجماعات الأهلية على ذواتها، لكنها محاولة للقول إن مختلف الثنائيات المغلقة التي تُعرض كحلول للمسائل الطائفية والعرقية والثقافية في بلداننا، التي تؤدي إلى واحدة من كارثتين، أما القهر أو الحروب الأهلية، آن لها أن تجرب أشياء أخرى، طالما أن السلام الاجتماعي والتعايش هو الهدف الأعلى والأسمى.     

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.