الحرب في أوكرانيا مستمرة - صورة تعبيرية. أرشيف
الحرب في أوكرانيا مستمرة - صورة تعبيرية. أرشيف

بعد سنة من الغزو الروسي لأوكرانيا لا توجد هناك في المستقبل القريب أي مؤشرات باقتراب الغزو من نهايته على الرغم من أن روسيا "خسرت استراتيجيا وعملانيا وتكتيكيا" وفقا للجنرال مارك ميلي رئيس هيئة الأركان العسكرية المشتركة الأميركية، وهو موقف ينسجم مع تقويم العديد من المحللين العسكريين، وإن كان هذا الموقف لا يعني بالضرورة أن الرئيس فلاديمير بوتين سوف يبحث عن حل تفاوضي لحرب عدوانية شنّها لتحقيق حلمه التوسعي باستعادة السيطرة على الأراضي التي كانت في السابق جزءا من الإمبراطورية الروسية.

بعد سنة من القتال الشرس ومقاومة أوكرانية شجاعة أحبطت جميع خطط بوتين العسكرية الأولية، لم يعد القتال حربا نظامية بين جيشين، كما كان خلال الأشهر الأولى للحرب، بل تحول في الأشهر الماضية إلى ما يشبه حرب الخنادق الثابتة التي ميزت فترة طويلة من القتال الوحشي خلال الحرب العالمية الأولى. أوكرانيا وحلفاؤها يدركون أن أي حرب استنزاف طويلة لن تكون لصالحها، ولهذا السبب تتمحور جهود أوكرانيا وحلف الناتو على ضرورة كسر هذا الجمود على جبهات القتال، والذي تحاول كسره أيضا روسيا، وتعبئة الجهود العسكرية وراء هجوم أوكراني مضاد خلال الأسابيع المقبلة لتقويض خطط روسيا وتحرير مناطق أوكرانية محتلة في شرق وجنوب البلاد.

ومع مرور الأسابيع والأشهر تتحول الحرب إلى مواجهة واسعة بين معسكرين عالميين، بعد وصول مضاعفاتها الاقتصادية إلى معظم بقاع العالم وألحقت أضرارا كبيرة باقتصادات الدول النامية والفقيرة. معظم إن لم نقل جميع توقعات وحسابات الرئيس بوتين قبل الغزو لم تتحقق، وبدلا من انهيار الدفاعات الأوكرانية وسقوط مدن كبيرة في يد الغزاة خلال أيام قليلة ومن بينها كييف العاصمة، قاتل الأوكرانيون بشجاعة فاجأت موسكو وألحقت خسائر كبيرة بالجنود الروس وعتادهم بعد الأداء الرديء للقوات الغازية وتخبط القادة العسكريين وفشلهم الميداني واللوجستي الذي كشف أن روسيا هي دولة عسكرية من المرتبة الثالثة إن لم نقل الرابعة.

حسابات بوتين السياسية كانت أسوأ. وبدلا من تردد وخوف دول الناتو من مساعدة أوكرانيا، فقد سارعت هذه الدول بقيادة الولايات المتحدة إلى مساعدة أوكرانيا عسكريا واقتصاديا ولوجستيا، وقدمت لها أسلحة وعتاد وتقنيات ومساعدات إلكترونية وصلت قيمتها إلى عشرات المليارات من الدولارات. وزاد حجم المساعدات العسكرية الأميركية التي وصلت إلى أوكرانيا خلال سنة واحدة عن 26 مليار دولار، وهذا لا يشمل المساعدات المخصصة التي وافق عليها الكونغرس والتي لا تزال قيد التحضير. وبدلا من ترهيب دول الناتو وغيرها من الدول الأوروبية، انضمت فنلندا والسويد إلى الحلف، وإن كانت تركيا، لأسبابها الخاصة والأنانية لم تبارك هذا الانضمام حتى الآن.

وبعد سنة من القتال، نرى وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن يحذر الصين علنا من أن لا تتورط في النزاع عسكريا، وأن لا تحول مساعداتها إلى روسيا من مساعدات عسكرية غير قتالية إلى مساعدات عسكرية قتالية تشمل الأسلحة والذخائر. الوزير بلينكن قال خلال المؤتمر الأمني السنوي في ميونيخ، ألمانيا إن معلومات الاستخبارات الأميركية تظهر أن الصين تعتزم تقديم مساعدات عسكرية إلى روسيا. ومقابل كتلة حلف الناتو التي تقف وراء أوكرانيا، هناك كتلة تقف وراء روسيا وتقدم لها الدعم التقني والعسكري من بينها الصين، وإيران التي تزود روسيا بمئات المسيرات التي تستخدمها القوات الروسية ضد المدنيين في أوكرانيا والبنى التحتية لحرمان المدنيين من المياه والكهرباء خلال فصل الشتاء. وتضم هذه الكتلة كوريا الشمالية التي تزود روسيا بالقذائف المدفعية، وبيلاروس. دول أخرى هامة ذات أنظمة ديمقراطية غير مكتملة ويبدي قادتها نزعات أوتوقراطية مثل الهند وجنوب أفريقيا لفت نفسها بعباءة "الحياد" ولكنها عمليا وقفت وراء روسيا.

تدخل إيران عسكريا بشكل مباشر في الحرب الأوكرانية يعني أنها تساهم عبر أسلحتها في قتال يجري في دولة تحدها دول في حلف الناتو، وذلك في تصعيد ملحوظ لدور إيران العسكري الذي كان قبل الحرب في أوكرانيا محصورا في دول عربية بالشرق الأوسط. تركيا، وهي دولة هامة على ضفاف البحر الأسود وتسيطر على مضائقه الاستراتيجية الهامة زودت أوكرانيا في البداية بمسيرات عسكرية استخدمتها القوات الأوكرانية بفعالية ضد القوات الروسية الغازية. لاحقا دخلت تركيا في  ترتيبات وإجراءات اقتصادية تتعلق بتصدير الطاقة والقمح الروسي والأوكراني إلى الدول التي كانت تعتمد تقليديا على إمدادات الطاقة والقمح من روسيا وأوكرانيا. خلال سنة 2021 ساهم القمح الأوكراني في تغذية أكثر من 400 مليون نسمة في جميع أنحاء العالم. وخلال الأشهر الخمسة الأولى للحرب أخفقت أوكرانيا في تصدير قمحها عبر البحر الأسود ومضائقه إلى العالم.

الدول الأفريقية والعربية التي تأثرت سلبا بسبب انقطاع إمدادات القمح من أوكرانيا تشمل الصومال وإثيوبيا وكينيا حيث يعاني الملايين من السكان من نقص المواد الغذائية ويعيشون على حافة المجاعة. دول أخرى مثل المغرب وتونس، وخاصة مصر تجد نفسها عاجزة عن توفير المساعدات المالية لتغطية الأسعار المتدنية للخبز الذي يستهلكه الفقراء وذوي الدخل المحدود.

الاقتصادات الأوروبية المتقدمة واجهت تحديات هامة للتعويض عن صادرات الغاز والنفط الروسية، بعد انخفاض حجم مستوردات هذه الدول من الغاز الروسي بنسبة 80 في المئة بين شهري مايو وأكتوبر في السنة الماضية. هذه الدول لجأت إلى استيراد الغاز المسال من الولايات المتحدة ومن مصادر أخرى لتعويض الإمدادات الروسية التي توقفت.

الخسائر البشرية الروسية العسكرية يصعب تصديقها. مسؤولو حلف الناتو يقدرون خسائر روسيا بين 150 و200 ألف قتيل وجريح روسي، كما يقدرون خسائر أوكرانيا من العسكريين بأكثر من مئة ألف بين قتيل وجريح. عدد الضحايا الأوكرانيين المدنيين يصل إلى عشرات الآلاف بين قتيل وجريح. ووصل عدد اللاجئين الأوكرانيين الذين غادروا البلاد إلى حوالي 7 ملايين أوكراني.

العقوبات الغربية ضد الاقتصاد الروسي ألحقت به أضرارا ملحوظة وخاصة لجهة استيراد المواد الإلكترونية المعقدة، ولكن استمرار الصادرات الروسية من النفط والغاز إلى دول مثل الصين والهند، ولو بأسعار مخفضة ساعدت بوتين على مواصلة تمويله لحربه المكلفة في أوكرانيا. ولكن استمرار القتال سوف يضع الاقتصاد الروسي في مأزق أكبر في الأشهر المقبلة، على خلفية هجرة عشرات الآلاف من المواطنين الروس من أصحاب المهارات والشهادات الجامعية، وهي الشريحة الاجتماعية الهامة التي لا يمكن تعويضها خلال سنوات قليلة.

ما يمكن قوله ببعض الثقة، هو أن الحرب سوف تستمر خلال الأشهر المقبلة لأسباب عديدة أبرزها أن الطرفان يعتقدان بإمكانية تحقيق انتصار عسكري، وطالما استمرت روسيا بزج المزيد من الجنود وأفراد مرتزقة تنظيم فاغنر في القتال واستمرت بإنتاج الأسلحة والذخائر أو الحصول على هذه الإمدادات من حلفائها، وطالما بقيت الولايات المتحدة ودول حلف الناتو ملتزمة بتزويد القوات الأوكرانية بالأسلحة المتطورة وتدريبها.

ما يمكن قوله أيضا وبثقة أكبر بعد سنة شاهد فيها العالم هول الغزو الروسي الذي حوّل مدنا وبلدات أوكرانية بكاملها إلى ركام ودمار لم تشهده أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، هو أن العدوانية الروسية تراجعت في وجه تكتل ديمقراطي تقوده الولايات المتحدة ويمتد من أميركا الشمالية مرورا بأوروبا وانتهاء باليابان وأستراليا. الطموحات والأوهام الروسية التوسعية تحطمت في أوكرانيا وإن لم تؤد النكسات الروسية حتى الآن إلى وقف القتال. ولو نجح الغزو الروسي لأوكرانيا، لكانت أوكرانيا اليوم محمية روسية مدمرة ومسلوبة الإرادة، وأوروبا تعيش في ظل واقع إمبريالي روسي جديد في وسط القارة، ولكانت الصين ازدادت ثقة بقدرتها على فرض إرادتها على جزيرة تايوان وبسط هيمنتها الاستراتيجية على منطقة شرق آسيا، ولكانت إيران ستجد نفسها عضوا قويا في النادي الأوتوقراطي الصاعد في العالم.

إخفاق الرئيس بوتين في تحقيق رؤيته القاتمة لأوكرانيا وأوروبا، وتحطم طموحاته الإمبريالية، على الرغم من الثمن الهائل الذي دفعه الشعب الأوكراني، هو أبرز إنجاز لأوكرانيا والدول الديمقراطية التي وقفت وراءها بعد سنة طويلة من الأهوال وحقول القتل الجماعي والأراضي المحروقة التي ستبقى مهيمنة على الذاكرة الجماعية للشعب الأوكراني وشعوب القارة الأوروبية خلال السنوات والعقود المقبلة.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.