حميدتي والبرهان في لقاء سابق (أرشيف)
حميدتي والبرهان في لقاء سابق (أرشيف)

أشار الإتفاق الإطاري الموقع بين المدنيين والعسكرين في 5 ديسمبر 2022 إلى خمس قضايا تحتاج إلى عقد مجموعات عمل من أجل المزيد من النقاش والتوافق بين أكبر قطاع من الشعب السوداني و أصحاب المصلحة، وتمثل قضية الإصلاح الأمني والعسكري واحدة من أهم هذه القضايا، ذلك أنه لا تتوقف عليها عملية التحول المدني الديمقراطي فحسب بل مصير الدولة ووجودها. 

ومن المعلوم أن سودان ما بعد ثورة ديسمبر 2018 قد ورث تركة مثقلة من إفرازات الحرب الأهلية، و تمثلت أخطر جوانب هذه التركة في ظاهرة تعدد الجيوش والمليشيات وانتشار السلاح في المجتمع بصورة كبيرة، وهو الأمر الذي يتطلب من مختلف أصحاب الشأن التعامل بالحكمة والمسؤولية المطلوبة حتى تتجنب البلاد الوقوع في فخ الانزلاق نحو الحرب الأهلية الشاملة.

وتبرز في هذا الخصوص قضية قوات الدعم السريع باعتبار أنها الفصيل المسلح الأكبر بعد الجيش السوداني، وهى قوات نشأت في سياق الحرب الأهلية في إقليم دارفور وتم تقنين وضعها في ظل النظام السابق بوصفها جزءا من القوات المسلحة، وقد استمر هذا الوضع في الفترة الانتقالية التي أعقبت سقوط النظام وحتى اليوم.

ومن المؤكد أن قضية الإصلاح الأمني و العسكري و دمج المليشيات المسلحة وقوات الدعم السريع في القوات المسلحة وصولاً للجيش القومي الواحد تمثل القضية الأهم التي لا يمكن بدون حلها بلوغ مرحلة السلام الشامل و الحفاظ على الاستقرار السياسي واستدامة الديمقراطية و إنجاز التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

قد أشارت نصوص الاتفاق الإطاري إلى هذه القضية بوضوح حيث ورد فيه الآتي : (قوات الدعم السريع قوات عسكرية تتبع للقوات المسلحة ويحدد القانون أهدافها ومهامها ويكون رأس الدولة قائدا أعلى لقوات الدعم السريع)، وكذلك جاء فيه : (ضمن خطة الإصلاح الأمني والعسكري والذي يقود الى جيش مهني قومي واحد يتم دمج الدعم السريع في القوات المسلحة وفق الجداول الزمنية المتفق عليها).

هذه النصوص تشكل أرضية صالحة لتحقيق هدف الوصول إلى الجيش القومي المهني الواحد، ولكنها تتطلب توفر الحكمة والإرادة والمصداقية لدى كافة الأطراف المعنية، ذلك أن كيان الدولة السودانية في غاية الهشاشة، كما أن المجتمع محتقن و منقسم على خطوط الجهة والقبيلة والعرق، فضلاً عن إرتفاع وتيرة التحشيد والتعبئة، وإذا خرجت طلقة واحدة بطريق الخطأ من جندي لا يدرك أبعاد هذه المعطيات، فإنها ستؤدي لحرب أهلية شاملة،  فقاتل الأرشيدوق النمساوي، فرانز فرديناند، لم يك يعرف مآلات فعلته !

وفي إطار التعبئة العسكرية والتجييش بين مختلف الأطراف، قال فريق الخبراء المعني بالسودان في تقريره الموجه إلى رئيسة مجلس الأمن في السابع من الشهر الجاري، إن القوات المسلحة (الجيش) وقوات الدعم السريع والحركات المسلحة الموقعة على إتفاق جوبا للسلام قد انخرطت في عمليات "تجنيد شرسة"، كما أوضح أن إنتشار الأسلحة بين المدنيين لا يزال يشكل مهدداً جدياً للأمن في البلاد.

ومن جانب آخر، فقد تنامى بشكل ملحوظ تكوين المليشيات الجهوية والقبلية في وسط البلاد وشمالها (قوات درع الوطن، قوات درع الوسط، قوات درع الشمال، قوات تهراقا الخ)، حيث تنشط حملات التجنيد لهذه القوات بصورة علنية في الأسواق والساحات العامة وتحت مرأى ومسمع كافة السلطات الأمنية!

وتستمر هذه التعبئة العسكرية في أوساط مختلف القوى المسلحة في ظل أوضاع إقتصادية متدهورة، وضائقة معيشية مستحكمة وغلاء غير مسبوق في أسعار السلع الاستهلاكية، وهى الأسباب التي شكلت العامل الأساسي والأكبر وراء ظاهرة الانفلات الأمني الملحوظ في مختلف مدن البلاد، بما في ذلك العاصمة الخرطوم.

كما تتواصل النزاعات والاقتتال القبلي وتتكرر الاشتباكات المسلحة بين مختلف المكونات الاجتماعية في ولايات دارفور الخمس والنيل الأزرق وجنوب وغرب كردفان، وهى الاشتباكات التي أدت لموت العشرات وجرح المئات ونزوح الآلاف، وتعتبر بعض هذه النزاعات انعكاساً وتجلياً للخلافات المكتومة والظاهرة بين القوى العسكرية. 

ليس هذا فحسب، بل أن أثر هذه الاختلافات قد امتد لينعكس في نوع من الاستقطاب والصراع بين القوى الإقليمية والدولية التي ترتبط مصالحها بالسودان وبدول الجوار، وهو الأمر الذي من شأنه توسيع شقة التباين والخلافات بين القوى العسكرية في سعي كل منها للاستقواء والحشد والتعبئة.

وتسعى أطراف عديدة لتأجيج نيران الصراع المسلح بين القوى العسكرية، تأتي في مقدمتها القوى المضادة للثورة وفلول النظام البائد التي لا تأبه بمصير الوطن وينصب كل جهدها في استعادة الحكم الذي سلبته منها ثورة ديسمبر، وتعمل هذه القوى في مختلف الجبهات على التحشيد الجهوي والمليشياوي والتحريض الإعلامي الهادف لإشعال فتيل المواجهة المسلحة.    

إن الحل الوحيد لهذه المعضلة الخطيرة يتمثل في إسراع الخطى للوصول للاتفاق السياسي النهائي، بما يتضمنه من توافق الأطراف حول قضية الإصلاح الأمني والعسكري والجيش القومي الواحد، ذلك أن الأساس الذي وضعه الإتفاق الإطاري يمثل الفرصة الوحيدة، وربما الأخيرة، المتاحة للاتفاق على هذا القضية وإيجاد حل سياسي لها ودون ذلك فإن الاحتمالات مفتوحة على خيارات أخرى تأتي في مقدمتها المواجهة العسكرية التي ستقود لا محالة لحرب أهلية شاملة.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.