لوحة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالسجن. صورة تعبيرية
 لوحة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالسجن. صورة تعبيرية

بكل المقاييس العسكرية والميدانية والاستراتيجية والسياسية، تعرض الجيش الروسي إلى هزيمة كبيرة في السنة الأولى من حرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أوكرانيا، والأخطر أن مسلسل الهزائم الروسية قد يستمر في السنة الثانية لأسباب السنة الأولى نفسها، بعدما انتقلت كييف من الدفاع إلى الهجوم وانتقل معها الغرب من موقع الاحتواء إلى موقع التطويق.

في نهاية السنة الثانية للهزيمة لم تعد مجريات الحرب بيد من بدأها، فهو منذ أن أطلق شرارتها الأولى خسر القدرة على انهائها مهزوما أو منتصرا، لأن في الحرب الأوكرانية لم تكن المواجهة بين محصورة بين جارين متنافسين أو بين دولة مركزية وانفصاليين، بل أعادت تقسيم العالم بين مشروعين، لجأ مجددا إلى العنف من أجل كتابة تاريخ جديد للسياسة الدولية، حيث اعتقدت موسكو قبل سنة أن بإمكانها إنهاء الأحادية القطبية، فيما الغرب بزعامة واشنطن بات يخطط إلى ما بعد اتفاقية سان فرانسيسكو سنة 1945. وهذا ما أوضحه بوتين نوعا ما بقوله "إن الغرب هو من بدأ الحرب، وإن الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة تسعى "لسلطة غير محدودة" في الشؤون الدولية، في حين حاولت روسيا وتحاول إيقافها".  

في خطابه الأخير يوم الثلاثاء الفائت، بدا الرئيس بوتين أنه يدرك ضمنيا صعوبات السنة الثانية من الحرب المرشحة لأن تتسبب بهزيمة اضافية لبلاده، لذلك كان إعلانه عن خروجه من معاهدة (ستارت الجديدة) واحدة من آخر أوراق القوة الاستراتيجية التي لوح بها بداية السنة الثانية، وكأنه يستعجل إعلان إنذاره بأنه مهما حصل من انتكاسات على الجبهات فالأفضل ألا تقتربوا من حدودي، فالخروج من معاهدة الحد من انتشار الأسلحة الاستراتيجية بالنسبة لبوتين هو رفع القيود عن فكرة استخدام أسلحة التدمير الشامل إذا اقتضى الأمر، وهذا كان واضحا في خطابه إذ قال "إن روسيا تواجه اليوم خطرا وجوديا ومن المستحيل هزيمتها في أرض المعركة، وستتعامل "بطريقة مناسبة" إزاء تحويل الصراع إلى مواجهة عالمية".  

فعليا ما يحدث هو مواجهة عالمية، ولكن ليست بين محورين، فقد نجح الغرب حتى في الحد من انخراط الصين إلى جانب روسيا في الحرب، فيما سقطت طهران في فخ استراتيجي حولها إلى شريك لموسكو بحرب تخوضها داخل القارة الأوروبية وعلى تخوم الناتو، وهذا يعني أن روسيا ستذهب إلى مزيد من العزلة خصوصا مع تراجع الأصوات الأوروبية، التي كانت تدعو إلى تسوية تحفظ بعضا من ماء وجه بوتين حتى لا تتحول روسيا إلى دولة كبرى مارقة، إلا أن ما قاله الرئيس الأميركي في زيارته المفاجئة إلى كييف منذ أيام إن المساعدات الأميركية هي لمواجهة الحرب "الوحشية والظالمة"، التي يشنها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. تختصر موقف المجتمع الدولي وخصوصا الغربي من حرب أوكرانيا.  

نتائج السنة الأولى للحرب اختصرها الكاتب اللبناني خيرالله خيرالله في مقاله الأخير بعنوان "بايدن وليس بوتين في كييف" هذه المعادلة قد تتحول مستقبلا الى أن يكون الرئيس الأوكراني مستقبلا في إقليم دونباس يستطلع الحدود مع روسيا وليس من يمثل فلاديمير بوتين ما يعني أن روسيا المعزولة التي تعرض نظامها السياسي لهزيمة استراتيجية لن يكون رأس نظامها بمنأى عن تداعياتها الداخلية.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.