قلم وورقة - صورة تعبيرية. أرشيف
قلم وورقة - صورة تعبيرية. أرشيف

في بداية الشهر الجاري هاتفني الزميل، بهاء الحجار، رئيس تحرير موقع الحرة، ليبلغني بقرار إدارة القناة وقف "من زاوية أخرى" نهاية شهر فبراير الجاري. تم إبلاغي وإبلاغ كل الكتاب بهذا القرار. أول ما خطر بذهني وقتها، أنها خسارة كبيرة، ليست فقط لي ككاتب، ولكن بالأحرى كقارئ أقرأ وأتابع مقالات هذا الباب دوريا وباهتمام شديد.

بدأت علاقتي بهذا الباب في يوليو عام 2017، عندما طلب مني السفير، ألبرتو فيرناندز، الكتابة مع انطلاق الزاوية، وبداية توليه مسؤولية القناة حينها. كانت الفكرة هي إتاحة مساحة لبعض الكتاب ممن أحب أن أطلق عليهم "المغردون خارج السرب"، بسقف تحريري عالٍ نادرا ما يتوفر في الصحافة العربية. فعلى مدار هذه السنوات وعشرات المقالات لم تُحذف كلمة واحدة مما كتبت، وهو ما شهد به كل من كتب في هذه المنصة.

كشخص أكتب منذ سنوات، وكثير من دائرة أصدقائي ومعارفي هم أيضا كتاب وصحفيون وصناع محتوى، أدرك جيدا قلة المنابر والفرص لمن يغردون خارج السرب. لمن قرروا أن يدافعوا عن قيم الحريات التي لا تزال ينظر إليها قسم كبير من مجتمعاتنا بكثير من الريبة والشك والمعاني السلبية المختلفة. ولمن قرروا ألا يدافعوا عن الاستبداد أو الإسلام السياسي، وأن يغردوا خارج هذه الثنائية الضيقة. ولمن اختاروا مواجهة وتفكيك أفكار التطرف الديني بكل ما يحمله ذلك من عواقب، في معظم الأوقات ليست بحميدة.

يبدو أن الاتجاه الآن يركز على صناعة الفيديو والبودكاست، حيث أن الجيل الأصغر أو Generation Z يفضل الفيديو والبودكاست على المقالات. وبالرغم من قناعتي أن كل منتج له طبيعته، وجمهوره المختلف. فما يمكن أن يُكتب في مقال رأي بما يحمله من أفكار جريئة، لا يصلح بالضرورة كنص لصناعة فيديو والعكس صحيح. ولكنني أتفق أن هذا بالفعل ما يفضله الجيل الأصغر سنا.

فأنا شخصيا أعمل منذ أكثر من 3 أعوام بمؤسسة غير ربحية تهدف إلى إثراء المحتوى الرقمي العربي، اسمها "أفكار بلا حدود". وأركز في عملي على صناعة الفيديو والبودكاست. ببساطة لأننا إلى حد كبير لدينا نفس القناعة، وهي أنه علينا تعديل أسلوب الرسالة إن أردنا أن نخاطب الجيل الأصغر. بل وللمفارقة فقد أخذنا قرارا مشابها بتوجيه قسم كبير من مواردنا لصناعة المحتوى المرئي والمسموع بدلا من المكتوب.

المحتوى الرقمي العربي بشكل عام فقير، من حيث الكم ومن حيث الجودة، لو قارنا بينه وبين المحتوى الذي يتم إنتاجه بلغات أخرى مثل الإنكليزية. وربما من هنا جاءت تسمية بودكاست "بالعربي" الذي أطلقناه بالمؤسسة. الاسم جاء بعد نقاش عن قلة المحتوى الجيد باللغة العربية، كما جاء كرد فعل على شعورنا بالغيرة من المحتوى المتنوع والمتميز بلغات أخرى.

فلو إنك تجيد الإنكليزية وحمّلت أحد تطبيقات البودكاست وليكن تطبيق "سبوتيفاي" مثلا، ستجد مئات، إن لم يكن الآلاف، من برامج البودكاست المتميزة باللغة الإنكليزية والتي تغطي كل مجالات الحياة تقريبا. بداية من السياسة للاقتصاد للرياضة للفن وليس انتهاء بالعلاقات العاطفية. هذا الغنى في المحتوى ذو الجودة العالية، نفتقده نحن الناطقون بالعربية.

من هنا جاءت الفكرة وهي أن نستضيف أصوات من العالم العربي، أصوات تتسم بالعمق وثراء التجربة سواء الفكرية أو المهنية أو الإنسانية. نستضيفهم لأحاورهم ونسلط الضوء على أفكارهم وتجاربهم وقصصهم، لننتج محتوى يليق بالمستخدم العربي، والذي نؤمن من أعماقنا أنه يستحق أفضل من المحتوى الموجود بكثير.

الصحافة في العالم العربي ليست منفصلة عن واقعه الصعب. فكثير من المواقع والمنابر الموجودة، إما تعتمد سياسة الترند، بمعني إنتاج أي شيء يرفع من أعداد المشاهدات بغض النظر عن المهنية أو القيمة التحريرية أو الصحفية للمحتوى، أو هي محكومة بتوجهات سياسية تقيد بشدة من جودة الأفكار المُقدمة من خلالها. فالواقع أن حال الصحافة العربية يحتاج إلى الكثير والكثير من التطوير.

هذا بالتأكيد لا ينفي وجود تجارب رقمية ناجحة أثبتت وجودها، وأثبتت خطأ بعض الأفكار الشائعة عن المتلقي العربي، باعتباره متلقي أو مستخدم User لا يتجاوب مع المحتوى الجاد والعميق. فلو أخذنا صناعة البودكاست كمثال فهناك العديد من التجارب الناجحة التي تكونت خلال السنوات القليلة الماضية، أذكر منها اثنتين فقط على سبيل المثال لا الحصر، فأنا بشكل شخصي أتابع بودكاست "فنجان" والذي تنتجه شركة ثمانية، وأراه من أفضل برامج البودكاست الحوارية باللغة العربية، إن لم يكن أفضلها بالفعل. أيضا أنتظر الحلقات الجديدة من بودكاست "أباجورة" بشغف والذي تقدمه، لبنى الخميسي، وهو بودكاست قصصي ممتع وملهم بشكل مميز.

هذه التجارب وتجارب أخرى متعددة، والتي يصعب ذكرها أو حصرها هنا، في مجال مقالات الرأي وصناعة الفيديو أثبتت عطش المستخدم الناطق بالعربية لصناع محتوى وكتاب يحترمون عقله ويجتهدون كل يوم لتطوير أنفسهم وإنتاجهم ليليق بهذا المستخدم. وأثبتت أيضا حاجة صناعة المحتوى لمؤسسات وشركات إنتاج تدعم العاملين بهذه الصناعة لتمكينهم من تقديم محتوى ينافس في جودته ما يتوفر بلغات أخرى مثل الإنكليزية.

ربما كان باب "من زاوية أخرى" استثناء لما أتاحه من سقف تحريري عال، نادر وجوده. وربما هذا هو ما يشعرني بالحزن تجاه هذا القرار، ولكنني في نفس الوقت أشعر بالامتنان الشديد لقناة الحرة ولكل القائمين على هذا الباب والذين ساهموا فيه، ولكل من أتاح لي ولكل من كتب في هذا الباب أن نوصل أصواتنا على مدار هذه السنوات دون تقييد أو حذف أو رقابة. شكرا "من زاوية أخرى"، وشكرا لقناة الحرة وإلى لقاء آخر في تجارب إعلامية أخرى.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.