Israeli left-wing activists hold placards during a 'Peace Now' march calling on Israelis to choose ''another way'' and end the…
تظاهرة لليسار الإسرائيلي للدعوة للسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين

دفع الفشل العربي المزمن في إقامة دول عادلة ذات مؤسسات فاعلة أنظمة القمع العربي لاستخدام العداء ضد إسرائيل كورقة تين لستر عوراتهم. بدأت حفلة التطرف العربي في مؤتمر الخرطوم ـ الذي تلا هزيمة رئيس مصر جمال عبدالناصر في حرب 1967 أمام إسرائيل ـ والمعروف بمؤتمر اللاءات الثلاثة: "لا سلام مع إسرائيل، لا اعتراف بإسرائيل، لا مفاوضات مع إسرائيل".

ثم يوم أعلن الفلسطينيون موافقتهم إقامة دولة لهم على أي جزء من أرض فلسطين، حرّضت أنظمة القمع العربي أزلامها ضد الراحل ياسر عرفات، فتشكلت "جبهة الرفض" من الفصائل الفلسطينية المعارضة لأي سلام مع إسرائيل. أما الدول الراعية لهذه الفصائل فشكّلت بدورها "جبهة الصمود والتصدي"، والتي كان في عضويتها أنظمة القمع من أمثال سوريا الأسد وعراق صدام حسين وليبيا القذافي.

ثم ورث "محور الممانعة"، الذي تقوده إيران الإسلامية، الخطاب الخشبي المتطرف نفسه عن معاداة السلام مع إسرائيل بكل أشكاله، وورث الممانعون العبارات المتهالكة نفسها التي تعكس سبب الفشل العربي، في الحكم كما في التعامل مع موضوع إسرائيل، منها عبارة كتبها القيادي الفلسطيني الراحل، الذي كان مقرّبا من عرفات، صلاح خلف المعروف بأبي أياد، في كتابه "فلسطيني بلا هوية"، وقال فيها: "أخشى ما أخشاه أن تصبح الخيانة وجهة نظر".

وحتى نفكك عبارة أبي أياد، علينا أولا أن نبحث في معنى "خيانة"، وهي تعني في الغالب "إخلال في العهد أو الأمانة". مثلا، عبدالناصر والضباط الأحرار أقسموا الولاء لمصر وملكها، لكنهم خانوا قسمهم وخلعوه في 1952. عبدالناصر كان خائنا للملك، لكن مؤيديه لا يعتبرونها خيانة لأنهم يبررون انقلاب الضباط بأسباب كثيرة، منها ظلم الملك، أو فساد حكمه، أو تهاوي اقتصاده، وغيرها. إذن، خيانة عبدالناصر وجهة نظر، إذ يحبذها مؤيدوه، الذين لا يشككون في وطنيته، ولكنها فعليا إخلال بالأمانة التي كانت موكلة إليه وصحبه.

الحرية تسمح بالتنوع، والتنوع يسمح بتغيير السياسات وتجربة ما ينفع مها وما لا ينفع

أما "الخيانة" التي تحدث عنها أبو أياد فتعني مخالفة رأي جبهات الرفض والتصدي والممانعة القائل بوجوب العداء التام والدائم لإسرائيل، ورفض أي سلام أو تطبيع معها. هنا "الخيانة" تفترض أن كل عربي أو مسلم عليه تبني العداء المطلق لإسرائيل، فقط لأنه عربي أو مسلم المولد، فالقبائل على رأي واحد، ومن خرج عن الإجماع، خان. ما يفوت أبي أياد (وهو لم يكن فيلسوفا سياسيا) أن الشعب ليس قبيلة ذات رأي واحد، بل مواطنين يختلفون في آرائهم وخياراتهم وأذواقهم ومصالحهم.

هكذا، برر أبو أياد قمع الرأي المخالف وتخوينه بوضع السلام مع إسرائيل خارج حيّز النقاش، أي أن موضوع العداء لإسرائيل يصبح من "الثوابت"، حسب تعبير الرافضين والمتصدين والممانعين. والثوابت ثابتة، ولا نقاش فيها، بل عقاب لمن يناقشها ويتوصل لنتيجة مخالفة تدعو لسلام مع إسرائيل.

هي فعلا مشكلة أن يطلب المتطرفون من "الرافضين" و"الممانعين" تبني وجهة نظرهم حول العداء الأبدي لإسرائيل بدون نقاش، تحت طائلة التخوين. حتى كتاب المسلمين يقول "من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، لكن الممانعين يعتقدون أن معاداة إسرائيل ثابتة أكثر من الإيمان بالله، القابل للنقاش.

في لبنان، حاول مجلس النواب إقرار قانون عفو يسمح بعودة اللبنانيين المقيمين في إسرائيل، وهم من مقاتلي "جيش لبنان الجنوبي" المندثر وعائلاتهم. تنطحت أحزاب الممانعة لرفض عودة من أسمتهم "عملاء" و"خونة".

أن تحاكم السلطات اللبنانية من يقوم بإفشاء أسرار الدولة، المدنية أو العسكرية، إلى دول أجنبية، أمر مفهوم، وهكذا فعلت الولايات المتحدة مع إدوارد سنودن، المختبئ من العدالة في روسيا. لكن من غير المفهوم محاكمة مواطنين عاديين من أفراد عائلات مقاتلي "لبنان الجنوبي". ومن غير المفهوم أيضا لما لا يشمل "العفو العام" لمقاتلي كل الميليشيات اللبنانية المنحلة بعد الحرب الأهلية مقاتلي "الجنوبي". ولا بأس أن تضع دولة لبنان بعض العائدين من إسرائيل تحت رقابة أمنية لمكافحة التجسس. ولكن أن تعامل بيروت مواطنيها كـ "خونة" لأنهم لا يوافقون على معاداة إسرائيل، فهو ما يحول المواطنية إلى قبلية ويقوض أسس العدالة والمساواة بين المواطنين بغض النظر عن آرائهم.

أما في دنيا العرب، فطواطم وأصنام وأنصاف آلهة، وثوابت ومقدسات، ورأي واحد وتخوين، وجمود، وموت

في الولايات المتحدة حزب نازي موالي لطاغية ألمانيا الراحل أدولف هتلر، الذي قاتلته أميركا وهزمته. لم تحظر القوانين الأميركية النازية لأن الحظر يتنافى وحرية الرأي والمعتقد. وفي ذروة الحرب الباردة والمواجهة مع الاتحاد السوفياتي والحروب السرية الجاسوسية، لم تمنع أميركا يوما مواطنيها من زيارة روسيا، كما لم تمنع أميركا الروس من زيارتها. حتى أن السناتور بيرني ساندرز أمضى شهر العسل في موسكو في ذروة الحرب بين البلدين، واليوم، ما يزال مواطنون أميركيون يزورون إيران، والعكس، على الرغم من انقطاع العلاقات الديبلوماسية والعداء بين واشنطن وطهران. وفي أميركا جحافل من المؤيدين علنا لنظام إيران الاسلامي، وللتوصل لسلام أميركي معه، بلا شروط.

وفي إسرائيل نفسها إسرائيليون ينحازون ضد إسرائيل علنا، من أمثال الكتّاب جدعون ليفي واميرا هاس، وأعضاء الكنيست من أمثال حنين الزعبي، وهو ما يطرح السؤال: من هم العرب الذين يخالفون إجماع "الرفض" و"الممانعة" ويدعون لسلام مع إسرائيل، كما تخالف هاس الغالبية الإسرائيلية؟ وما هي المنظمة العربية الموازية لحركة "السلام الآن" الإسرائيلية؟ وأين هو اليسار العربي، الموازي لليسار الإسرائيلي، الأكثر ميلا للحوار؟ وكيف يوفّق الشيوعيون العرب بين انخراطهم في صراع قومي قبلي ضد إسرائيل مع عقيدتهم الأممية التي تعتبر الصراع الطبقي عابرا للقوميات؟

قد لا يفهم "الرافضون" و"الممانعون"، كما بعض "الصينيين" و"الإيرانيين" و"الروس" ومؤيدي الاستبداد، أن تفوق الولايات المتحدة في العالم، وتفوق إسرائيل في الشرق الأوسط، ليس تفوقا ماديا، بل هو تفوق مبني على حرية الرأي والاختيار والمعتقد. الحرية تسمح بالتنوع، والتنوع يسمح بتغيير السياسات وتجربة ما ينفع مها وما لا ينفع، وتقدم ثقافة للمواطنين لاختيار السياسات التي يرونها في مصلحتهم، واختيار السياسيين ممن يعتقدونهم قادرين على تنفيذ هذه السياسات.

أما في دنيا العرب، فطواطم وأصنام وأنصاف آلهة، وثوابت ومقدسات، ورأي واحد وتخوين، وجمود، وموت.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.