Belarusian opposition supporters rally in the center of Minsk, Belarus, Sunday, Aug. 16, 2020. Opposition supporters whose…
انطلقت الاضطرابات في بيلاروسيا منذ أسبوعين، ولا تزال مستمرة، بحيث تحولت إلى مسيرات شعبية وتجمعات نقابية وتظاهرات عامة، على الرغم من حملة القمع والاعتقالات الجماعية التي شنتها السلطات

فجأة، يبدو أن هناك ثورة تختمر في بيلاروسيا. في التاسع من أغسطس، ذهب البيلاروسيون إلى صناديق الاقتراع لتقرير ما إذا كان الرجل القوي للبلاد، ألكسندر لوكاشينكو، يستحق فترة سادسة في منصبه. كان من المفترض أن تكون الانتخابات مسألة شكلية، من شأنها أن توفر خمس سنوات أخرى في السلطة للنظام الاستبدادي القمعي الذي حكم البلاد منذ استقلالها عن الاتحاد السوفياتي في عام 1991.

لم يجر الأمر كما يشتهي لوكاشينكو. وعقب انتخابات 9 أغسطس، التي تقول السلطات إن لوكاشينكو فاز بها بهامش كبير، بدأت احتجاجات شعبية واسعة النطاق في الجمهورية السوفياتية السابقة، رفضا لنتائج الانتخابات التي يُنظر إليها على أن انتخابات مزورة. انطلقت هذه الاضطرابات منذ أسبوعين، ولا تزال مستمرة، بحيث تحولت إلى مسيرات شعبية وتجمعات نقابية وتظاهرات عامة، على الرغم من حملة القمع والاعتقالات الجماعية التي شنتها السلطات.

في الواقع، أصبح من الواضح الآن تماما أن المعارضة البيلاروسية، المعترضة على النظام السياسي الذي تراه غير تمثيلي ومزور، تسعى بشكل متزايد إلى تحقيق انتقال سياسي سلمي في البلاد. سفيتلانا أليكسيفيتش، الكاتبة الحائزة على جائزة نوبل وإحدى كبار المفكرين في البلاد، تحدثت باسم الكثيرين الأسبوع الماضي عندما قالت علنا إن "السلطات أعلنت الحرب على الناس" ودعت لوكاشينكو إلى التنازل عن السلطة من أجل تجنب وقوع حرب أهلية.

يواجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين معارضة متزايدة في الداخل الروسي

السؤال العملي هو: كيف سيرد النظام على هذه التطورات؟ حتى الآن، جاءت استجابة لوكاشينكو كما هو متوقع: قمع رسمي واسع النطاق أدى إلى انتشار التعذيب وأظهر وحشية النظام. كان الرد قاسيا لدرجة أن الاتحاد الأوروبي وافق على خطط لفرض عقوبات جديدة على مسؤولي النظام في بيلاروسيا ردا على ذلك.

بالإضافة إلى ذلك، فإن استمرار تحركات المعارضة دفع لوكاشينكو إلى التمحور دوليا أيضا. وبهدف مواجهة الاضطرابات المتصاعدة، مد يده مجددا إلى روسيا للمساعدة في الحفاظ على الوضع السياسي الراهن.

وهذا تطور مهم، لأن العلاقات بين موسكو ومينسك كانت تنحو صوب التوتر في الأشهر الأخيرة. فخلال العام الماضي، كثفت الجهود الروسية لضم بيلاروسيا (التي كانت من الناحية الفنية في اتحاد كونفدرالي مع روسيا منذ عام 1996، لكنها ظلت مستقلة)، بالإضافة إلى الخلافات حول الطاقة، مما دفع لوكاشينكو إلى شق طريق أكثر استقلالية وتوسيع اتصالات حكومته مع الغرب. أدت مناورات لوكاشينكو إلى توتر عميق في العلاقات مع الكرملين، ووصل الأمر إلى درجة أن موسكو أرسلت مرتزقة إلى بيلاروسيا قبل انتخابات التاسع من أغسطس في محاولة لزعزعة استقرار البلاد. لكن الأمر مختلف اليوم مع تعرض قبضته على السلطة للخطر، تخلى رئيس بيلاروسيا عن محاولاته لتحقيق التوازن بين الشرق والغرب، وعاد إلى موسكو للحصول على حمايتها.

أصبحت بيلاروسيا بشكل غير متوقع أحدث اختبار لإمكانية حصول تغيير سياسي ذي معنى في الدول المحيطة بروسيا

واقعيا، يمكن الاعتماد على الكرملين في مد يد العون. وعلى مدى العقدين الماضيين، راقبت الحكومة الروسية بقلق ما يسمى بـ "الثورات الملونة" التي اجتاحت دول الاتحاد السوفياتي السابق، مما أدى إلى تخفيف قبضتها على جيرانها الأضعف بسبب هذه الثورات. في الواقع، كان غزو أوكرانيا واحتلال شبه جزيرة القرم في عام 2014 (الذي يستمر حتى يومنا هذا) محاولة واضحة من قبل موسكو لتغيير المسار الموالي للغرب في ذلك البلد في أعقاب "ثورة الميدان" في ديسمبر 2013.

كذلك يواجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين معارضة متزايدة في الداخل الروسي. حيث أدى تدهور الاقتصاد، وتفاقم المصاعب المحلية، والاستجابة الوطنية الفاشلة لفيروس كورونا إلى انخفاض ملحوظ في شعبية بوتين نفسه، إلى حد ظهور علامات جديدة على تزايد مقاومة قيادته السياسية.

لذلك يوافق الكرملين بلا شك على ما قاله لوكاشينكو في اجتماع طارئ لمجلس الوزراء في نهاية الأسبوع: "الدفاع عن بيلاروسيا يمثل حماية منطقة ما بعد الاتحاد السوفياتي بأكملها". وهذا هو السبب الذي جعل الحكومة الروسية تشير إلى استعدادها لتقديم مساعدة عسكرية إلى مينسك، ومن المرجح أن تجد موسكو ذريعة للقيام بذلك.

يبدو أن بوتين وأنصاره قد أدركوا ما تفهمه المعارضة البيلاروسية بالفعل؛ أصبحت بيلاروسيا بشكل غير متوقع أحدث اختبار لإمكانية حصول تغيير سياسي ذي معنى في الدول المحيطة بروسيا (وربما حتى في داخل روسيا نفسها).  

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.