Iraqi medical personnel gather in a show of support for healthcare workers and patients during the coronavirus (COVID-19)…
تصدر وزير الصحة والمحيطون به من خبراء واختصاصيين وكوادر الصحة والمستشفيات هم المتصدرون في المشهد هذه المرة

في مقال لها في 30 ديسمبر 2019 على موقع كوارتز أحصت آناليزا ميربلي المتخصصة في الجغرافية السياسية 20 دولة في العالم باتت محكومة بحركات شعبوية خلال السنوات القليلة الماضية، في حين هناك 14 دولة أخرى (من بينها العراق) صارت فيها الأحزاب الشعبوية تلعب فيها دورا محوريا في صنع السياسات. 

هذا الانتشار السريع للشعبوية كان أحد إرهاصات نهاية العولمة الاقتصادية، ولأنني مدرك أنه لا بديل عن العولمة فأتوقع حصول تغييرات تصحيحية شاملة شبيهة بما اقترحه العالم الاقتصادي الإنكليزي كينز للرأسمالية كنظام اقتصادي بعد أزمة الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن الماضي، حيث اقترح أن تلعب الدولة دورا في إعادة التوازن إلى الاقتصاد الرأسمالي من خلال الأشراف المباشر على "عمليات الإنتاج والتوزيع، وضبط التوازن في السوق بين العرض والطلب".

تكمن المفارقة الآن في أن الشعبوية التي استفادت من قصور العولمة ستعاني كثيرا وستنحسر نتيجة عجز النظم الشعبوية وقادتها في التعامل مع تداعيات أزمة كورونا. 

وفى هذا الصدد، لاحظ عالم السياسة فوكوياما التشابه الكبير في عقلية الحكم واتخاذ القرار والتعامل مع كورونا بين النظم الشمولية كالصين وإيران والنظم الديمقراطية المحكومة بقادة شعبويين مثل الولايات المتحدة الأميركية. فالقادة الشعبويين مثل الشموليين يتميزون بذات العقلية التي تهتم بالصورة التي يرسمها الناس لهم بدلا من الحقائق على الواقع.

كما واجه العراق هذا التحدي العميق أيضا، فعلى الرغم من ضعف هيكل قيادته، إلا أن الشخصيات الشعبوية كان لها تأثير كبير على السياسة العراقية خلال السنوات القليلة الماضية.، حيث وجدت الدراسات الاجتماعية أن أكثر الشعوب التي ناصرت القادة الشعبويين هي التي لديها شعور عال بالخوف من الغريب (الزينوفوبيا) وأقل معدلات الثقة بالآخر. وبحسب آخر الإحصاءات فإن نسبة العراقيين الذين يعانون من الزينوفوبيا (الخوف من الغريب) تصل 80 في المئة، أما نسبة من يثقون بالآخر بين العراقيين فهي 10 في المئة فقط.

مر العالم بأزمات على مدى تاريخه وكان الإنسان قادرا في كل مرة على تجاوزها بالمنطق وبالعلم لا بالخرافة والوهم

وبعد إدراك العراقيين أن الخطاب السياسي الطائفي كان أحد أسباب كارثة المد الداعشي الذي تفشى في العراق، وبعد أن تم دحر تنظيم "داعش" في عام 2017، بدأ نوع جديد من الخطاب الشعبوي يتصاعد مركزا على إثارة مشاعر سلبية جديدة مثل الخطاب المناطقي، أو تقسيم العراقيين إلى محور مقاومة ومحور التابعين لأميركا وغير ذلك من التقسيمات. 

يميل القادة الشعبويين دوما لتجسيد فكرة الفرد المُخلص عوضا عن النظام والمؤسسات، لذا فهم لا يحتاجون للمؤسسات لأنها فاسدة وهم الأطهار الأنقياء. وهنا يكمن التشابه بين القيادات الشعبوية والقادة الشموليين والدكتاتوريين بل والنظم الشمولية التي تؤمن أن كل معارض هو شيطان فاسد رجيم يجب التخلص منه.

وفى ظل وجود الكثير من القادة الشعبويين في السلطة الآن، فإن فشلهم في الاستجابة لمتطلبات أزمة كورونا وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى تراجع الخطاب الشعبوى التحريضي الذي يهدف إلى استثارة الغرائز الأولية مثل الخوف والفزع والكراهية لدى الجماهير ضد الأخر، والذي لطالما ما استغله القادة الشعبويين لبناء قاعدتهم الشعبية. ففي ظل تفشى وباء فيروس كورونا، فإن حشد الناس على أساس الخوف من الآخر لن يكون له أي منطق، خاصة وأن الناس في مواجهتها مع كورونا تختبر الموت الجماعي وتشاهد الكثير من وهو بالتأكيد أشد قسوة من أي خوفٍ آخر.

لعبت وسائل التواصل الاجتماعي أيضا دورا رئيسيا في تقوية مشاعر التضامن بين الشعوب. فخلال فترة التباعد الاجتماعي أتاحت وسائل التواصل الاجتماعي للمستخدمين إمكانية متابعة ما يحدث من مآسي في كل مكان، بخاصة في ظل الوقت المتاح للمشاهد نتيجة العزلة مما أثار مشاعر الناس وجعل الشعور بالتضامن الذي صار أحيانا يطغى حتى على الشعور بالخوف، وهذا المنطق معاكس تماما لمنطق الشعبوية. فبدلا من الخوف من الآخر بات الناس يشفقون عليه ويتعاطفون معه، وقد ضجت مواقع التواصل العراقية شأنها شأن كثير من مواقع التواصل العالمية بمشاعر التضامن مع الآخر.

أدى أيضا تفشى وباء كورونا إلى الاهتمام بالبحث العلمي والحقائق العلمية، وهو ما ساهم بدوره في تراجع الخطاب الشعبوى الذي يسوق للناس الوهم ويصور لهم أن القادة الشعبويين هم المخلصون، في حين أن إمكاناتهم الفعلية أقل بكثير مما يدعون. 

هؤلاء القادة هم في الواقع مثل الساحر أو الدجال الذي يبيع الوهم للجمهور. لكن عندما يواجهون حقائق العلم ينفضح أمرهم وحقيقتهم المخادعة. لقد فضحت حقائق العلم عدد من شعبويي العراق الذين اعتمدوا نظرية المؤامرة أو البعد الديني الغيبي في تفسير جائحة كورونا بل واضطر بعضهم للتراجع عما صرحوا به سابقا.

صارت أهمية مؤسسات الدولة واضحة بشكل متزايد للجمهور العراقي، ففي حين ينظر الشعبويين إلى مؤسسات الدولة باعتبارها نظام معاد للشعب، إلا أنه في وقت الأزمات الكبرى تكون هناك حاجة ماسة لعمل مؤسسي وتعاوني وليس للعمل الفردي أو القائد الاستعراضي. 

هذه الأزمة بلا شك ستسقط ما تبقى من شعبويي العراق خاصة أولئك الذين جاءت بهم انتخابات 2018 التي شهدت تزويرا واسعا

كما تبرز الحاجة للاستعانة بالخبراء وليس للخطاب الشعبوى للخروج من تلك الأزمة. ففي الوقت الذي تصدر فيه السياسيون كل الأزمات التي مر بها العراق سابقا كان وزير الصحة والمحيطين به من خبراء واختصاصيين وكوادر الصحة والمستشفيات هم المتصدرون في المشهد هذه المرة والمنقذ الذي يسمع الجميع لإرشاداته وتوصياته.

لقد مر العالم بأزمات على مدى تاريخه وكان الإنسان قادرا في كل مرة على تجاوزها بالمنطق وبالعلم لا بالخرافة والوهم. كما مر العراق بأزمات كبيرة كان آخرها الأزمة المزدوجة المتمثلة في تهديد تنظيم "داعش" وانخفاض أسعار النفط عام 2014 في حكومة السيد نوري المالكي الذي اعتمد خطابا شعبويا قسّم العراق وأدى إلى ترسيخ النزعة الطائفية. وقد سهّل هذا الخطاب الشعبوي لتنظيم "داعش" احتلاله لأكثر من ثلث أراضي العراق وخسارة أرواح الآلاف من العراقيين وتشريد الملايين، وهو ما أدى إلى الإطاحة بالمالكي رغم (فوزه) النسبي في انتخابات 2014.

وعلى النقيض، كان للخطاب الوطني المتوازن والقرارات غير الشعبوية لحكومة العبادي وتعاونه مع المجتمع والتحالف الدوليين دورا مهما في حشد العراقيين على أساس وطني وتقليل خطاب الكراهية وبالتالي دحر تنظيم " داعش".

وكما عرّت الأزمات الماضية قادة الوهم من الشعبويين الذين اعتمدوا في سياستهم على تخويف العراقيين من بعضهم البعض وأسقطتهم للأبد، فإن هذه الأزمة بلا شك ستسقط ما تبقى من شعبويي العراق خاصة أولئك الذين جاءت بهم انتخابات 2018 التي شهدت تزويرا واسعا كما أشارت لها كثير من التقارير، ممن تصدروا المشهد السياسي وتعيد بالتالي الهيبة للدولة ومؤسساتها.

المصدر: منتدى فكرة

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.