Turkish President Recep Tayyip Erdogan speaks during a press conference held after the coordination meeting to fight against…
تضطلع حكومة إردوغان بدور كبير في بناء جسور اقتصادية واجتماعية ودينية مع الأحزاب الأوروبية التي تعتبرها متوائمة سياسيا مع مصالحها

في أغسطس 2019، أسس ميكاييل يوكسيل، وهو سياسي سويدي من أصول تركية، حزبا جديدا في السويد يدعى "نيانس" (Nyans). أنشأ يوكسيل، العضو السابق في حزب الوسط السويدي الليبرالي الصغير ذي الميول اليسارية، الحزب الجديد بعد إرغامه على الاستقالة على أعتاب انتخاب الممثلين السويديين في البرلمان الأوروبي، وفيها كان يوكسيل مرشحا بارزا. 

وقد أُقصي يوكسيل على خلفية روابطه المزعومة بتنظيم "الذئاب الرمادية" التركي، وهو ذراع الشباب المسلح في حزب الحركة القومية التركي المتطرف الذي كان والده عضوا فيه وشريكا في ائتلاف حزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه الرئيس رجب طيب إردوغان. أسس يوكسيل حزب "نيانس" ليركز بشكل خاص على المسائل التي يعتبر مؤسسوه بأنها تؤثر في مسلمي السويد.

يمثل حزب "نيانس" ومؤسسه دراسة حالة مثيرة للاهتمام بما أن الحزب يشكل نقطة مرجعية جديدة ضمن نزعة مثيرة للقلق في السياسات الأوروبية: يبدي إردوغان والقيادة السياسية التركية اهتماما بالغا في عدد من الأحزاب الأوروبية الصغيرة المنسجمة مع رؤية إردوغان السياسية قيد التنفيذ في تركيا. وفي أوروبا، يحصل ذلك في إطار "استثمار" تركيا الكبير في المحافظة على الروابط السياسية مع الجالية التركية الكبرى في أوروبا، لا بل السيطرة عليها.

تضطلع حكومة إردوغان بدور كبير في بناء جسور اقتصادية واجتماعية ودينية مع الأحزاب الأوروبية التي تعتبرها متوائمة سياسيا مع مصالحها. هذا وقد لخص إردوغان بصراحة سياسته على القناة الألبانية (Albania TV) في يونيو 2017، مؤكدا أنه ما من عيب على الإطلاق في دعم الأحزاب السياسية في دول البلقان والدول الأوروبية الأخرى التي تتشارك عقيدة مماثلة مع حزب العدالة والتنمية الإسلامي الذي يترأسه، وأن "هذه الجهود يجب ألا تثير امتعاض أي طرف".

يرى إردوغان على الأرجح أن أحزابا مثل "نيانس" ستكون بمثابة وسيلة فعالة للتأثير على الدول الأوروبية عبر المنظمات التي تعتبرها بوضوح من وكلائها السياسيين

إلى جانب الروابط مع إسلاميين معروفين أصلا في السويد، على غرار وزير الإسكان محمد كابلان والناشط يسري خان (اللذين كانا سابقا في "حزب الخضر")، ترتبط منصة "نيانس" أيضا بأحزاب إسلامية أوروبية أخرى يعتبر إردوغان أنها تخدم مصالحه. 

تعمل المنصة جاهدة على جعل المسلمين أقلية متجانسة رسمية بناء على تعريف محدد للإسلام؛ ومنح المسلمين (وفقا لهذا التعريف المحدد) منزلة مميّزة ومحمية يتمتّع بها حاليا اليهود والسكان السويديون الأصليون، لا الأقليات الأخرى؛ واعتبار الانتقادات الموجهة ضد الإسلام جريمة كراهية؛ واعتبار رهاب الإسلام جريمة محددة. 

لا يُعدّ "نيانس" المثال الأول في السويد عن حزب يركز خصيصا على هذه المسائل، بما أن حزب "ياسين" (Jasin)  سبقه في عام 2017، وقد أعلن بصراحة عن نيته اتباع الشريعة، إلا أن الأخير لم يحصد العدد اللازم من التواقيع للمشاركة في الانتخابات الوطنية اللاحقة في السويد. ولكن لا ينبغي الافتراض أن هذه الأحزاب تمثل بالضرورة المسلمين كهيئة موحدة متجانسة، إذ أن أغلبية واسعة من المسلمين في السويد لا تنتمي لأي منظمة مسلمة.

شهدت السويد أيضا جهودا سياسية من قبل الإسلاميين في خلال اتفاق عام 1999 بين حركة "الإيمان والتضامن" ("Tro & Solidaritet") الديمقراطية الاشتراكية و"المجلس الإسلامي السويدي" ("Sveriges Muslimska Råd")، الذي اعتبر مراقبون أنه تابع لجماعة "الإخوان المسلمين" الإسلامية. 

وبموجب هذا الاتفاق، حصل "المجلس الإسلامي السويدي" ("Sveriges Muslimska Råd") على عدد من المراكز الآمنة على قوائم الأحزاب مقابل دعمه للديمقراطيين الاشتراكيين. اعتُبرت هذه التجربة ناجحة للغاية من منظور "الإخوان المسلمين"، ومذاك، تزايد عدد الحركات والجماعات التابعة لـ "الإخوان المسلمين"، وحصلت على تمويل من الخزانة العامة، وفرضت نفسها على أنها أبرز هيئة ممثلة للمسلمين في السويد.

ولكن في البيئة السياسية الراهنة في السويد، يتمتع "نيانس" بحظوظ أكبر بكثير من حزب "ياسين" من ناحية تحقيق تمثيل سياسي، وسيبدأ بالترشح إلى الانتخابات البرلمانية والانتخابات المحلية في ستوكهولم وغوتنبرغ ومالمو المزمع عقدها كلها في عام 2022. وترتكز ميزات "نيانس" على قوة المنظمات المحلية في هذه المدن السويدية الرئيسية الثلاث، كما في مدن أصغر مثل أوربرو وفاكسيو، حيث يعتزم أيضا المشاركة.

روابط يوكسيل بتركيا وحزب العدالة والتنمية مشهورة بمدى عمقها

بالإضافة إلى ذلك، شكّل رد يوكسيل على إقصائه من حزب الوسط خير دليل على روابطه المستمرة بأنقرة. فبعد إقالته من الحزب، حاول بطبيعة الحال نسج رواية خروجه القسري، إلا أنه وجه هذه الرواية بشكل خاص للجمهور التركي المؤيد لإردوغان. 

ففي مقابلة مع وكالة "الأناضول" الرسمية التركية للأنباء، زعم أن حزب الوسط حاول إرغامه على التحدث ضد تركيا. وعندما رفض، واجه مشاكل ضمن الحزب أدت إلى استبعاده. وزعم أيضا أنه طُلب منه التحدث ضد الرئيس التركي إردوغان مباشرة، الأمر الذي رفضه مجددا. وبحسب المقابلة، واجه يوكسيل لهذه الأسباب حملة سلبية في السويد.

ومن المثير للاهتمام أن هذه المزاعم لاقت دعما في الإعلام التركي وليس السويدي، فلو انتشرت هذه المزاعم على نطاق واسع في السويد، لكان من السهل تجاهلها. ولكن بالنسبة إلى جمهور تركي، اعتُبرت هذه المزاعم، لا سيما في غياب أي سياق إضافي، قابلة أكثر للتصديق. ويمكن أيضا الافتراض بسهولة أن منصة "نيانس" لن تشارك قط في انتقاد تركيا في عهد إردوغان.

تشبه قصة يوكسيل قصص أفراد آخرين مؤيدين علنا للإسلاميين بصورة عامة وناشطين في سياسات الأحزاب السويدية خارج حزب الوسط. ومن الأمثلة الشهيرة على ذلك عمر مصطفى الذي كان على وشك أن يُنتخب في المجلس الحاكم للديمقراطيين الاشتراكيين في عام 2013. 

أشارت احتجاجات داخل الحزب وخارجه إلى روابطه المتعددة بالإسلاميين، بمن فيهم دعاة إسلاميين مناهضين للسامية ومعادين للمثليين، فاستقال من الحزب. ومن الأمثلة الأخرى وزير الإسكان السويدي السابق المذكور آنفا محمد كابلان، الذي توجب عليه أيضا الاستقالة عندما أُفيد عن ارتباطه بتنظيم "الذئاب الرمادية"، إذ حضر عشاءً مع أعضاء التنظيم في السويد. 

برزت أمثلة أخرى من مقاطعات الأحزاب المحلية من وقت إلى آخر، وأشارت "اللجنة السويدية الوطنية لمناهضة معاداة السامية" بصورة خاصة إلى أنه غالبا ما يجري التغاضي عن معاداة السامية المنبثقة عن السياسيين والناشطين التابعين للأحزاب السياسية من قبل قيادات الأحزاب في السويد.

في دول أوروبية أخرى، واجهت أحزاب مثل حزب دينك في هولندا انتقادات من العديد من السياسيين الهولنديين البارزين لعلاقاتهم الوثيقة مع تركيا، حيث رفض قادة "دينك" فرصا متعددة لانتقاد سجل إردوغان السيئ في مجال حقوق الإنسان، خاصة منذ محاولة الانقلاب التي حصلت في عام 2016.

لكن روابط يوكسيل بتركيا وحزب العدالة والتنمية مشهورة بمدى عمقها، ولاقى ترشحه لحزب الوسط (للانتخابات الأوروبية) تغطية واسعة من وكالة "الأناضول" الرسمية التركية للأنباء. 

بعد إقالته من الحزب، حاول بطبيعة الحال نسج رواية خروجه القسري، إلا أنه وجه هذه الرواية بشكل خاص للجمهور التركي المؤيد لإردوغان

على وجه التحديد، أقام حملته في بلدة كولو، الواقعة في محافظة قونية التركية، التي هاجر الآلاف من سكانها مذاك إلى السويد، كما هو معروف. وتجدر الإشارة إلى أن والد يوكسيل، أورهان يوكسيل، هو رئيس البلدية السابق لكولو (1999 ـ 2004) وشخصية بارزة في حزب الحركة القومية التركي المتطرف. وبالرغم من أن أورهان ترشح أيضا للانتخابات البلدية اللاحقة في عاميْ 2009 و2014، إلا أنه خسر في المرتين.

رد أورهان على التحديات التي واجهها ابنه في السياسة السويدية من خلال إلقاء اللوم على المعارضة التركية، ما يسلط الضوء أكثر على الروابط القائمة بين السياسة التركية والجالية التركية. فقد وجّه أورهان اللوم إلى حزب المعارضة الرئيسي في تركيا، وهو حزب الشعب الجمهوري (CHP) وحملات حزب العمال الكردستاني (PKK) المحظور الذي صنّفته تركيا كمنظمة إرهابية، حيث اتهمه بالمسؤولية عن الجدل الدائر في السويد حول ابنه.

قد يحظى يوكسيل أيضا بالمزيد من الدعم الانتخابي في المستقبل مع تعزيز تركيا انخراطها غير المباشر في السياسة السويدية. ويظهر هذا الانخراط بوضوح: في خلال الانتخابات السويدية، يجري تشجيع الأتراك الذين يحملون جوازات سفر سويدية على التصويت في تركيا. 

يجري ذلك تحت إشراف الاستخبارات التركية، وقد توجه سياسيون مثل يوكسيل وكابلان إلى تلك المنطقة لإقامة حملات فيها أيضا. وقد تتلقى الأحزاب التي تُعتبر داعمة للمصالح والحكومة التركية مساعدة بأشكال متعددة. بحسب رئيس التحرير السابق لصحيفة "Today’s Zaman" في أنقرة التي أوقفت اليوم عن العمل، عبد الله بوزكورت، الذي يعيش في المنفى في السويد منذ عام 2016، يُعدّ التصويت المدعوم من قبل الدولة التركية أمرا شائعا أيضا في مختلف أنحاء أوروبا.

تعكس هذه الجهود التوترات السابقة التي أحاطت بالانتخابات البلغارية في عام 2017، إذ برزت تقارير عن الضغط الذي مارسه وزير تركي لصالح حزب "دوست" (DOST)  البلغاري بين المواطنين البلغاريين المقيمين في اسطنبول. فضلا عن ذلك، حرصت تركيا على توطيد علاقاتها السياسية مع أصحاب الجنسية المزدوجة من خلال السماح لأي مواطنين أتراك مقيمين في الخارج بالتصويت في الانتخابات التركية منذ عام 2014، وهذه ممارسة تشجعها بشكل ناشط لدى الجالية التركية في أوروبا، التي تُعتبر في أغلب الأحيان مؤيدة لحزب العدالة والتنمية. 

في الواقع، أتت هذه السياسة بثمارها في خلال الانتخابات التركية الأخيرة في عام 2018 إذ أن حوالي نصف المواطنين الأتراك المقيمين في السويد الذين يحق لهم التصويت والذين صوتوا في الانتخابات التركية، اقترعوا لصالح حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية.

أدى دعم إردوغان للأحزاب الأوروبية تماشيا مع مصالحه إلى تعزيز نزعة أخرى في السياسات الأوروبية ألا وهي بروز الأحزاب الإسلامية الداعمة لإدراج تقاليد القانون الإسلامي ضمن قانون الدولة العلماني. 

وقد اضطلعت جماعة "الإخوان المسلمين" بدور أساسي في انتشار هذه النزعة في أوروبا، كونها نجحت إلى حد كبير في تقديم نفسها كممثلة رئيسية للمجتمعات المسلمة في دول أوروبية متعددة. 

ويبرز هذا التأثير بشكل خاص في "اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا" الذي أسسته جماعة "الإخوان المسلمين"، والذي يشرف على عشرات المنظمات في أوروبا. كما أثارت أحزاب صغيرة، مثل "حزب الإسلام" البلجيكي المؤيد للشريعة، مخاوف بشأن الطرق التي تولي من خلالها الأحزاب الإسلامية الأولوية للشريعة الدينية ضمن منصتها السياسية.

تبرز هذه النزعة على الرغم من أن الأحزاب السياسية الأوروبية المعاصرة، ولا سيّما في اسكندينافيا، غالبا ما تبني عملها على خصائص أساسية للأفكار والعقائد، على الرغم من أمثلة معينة مثل الأحزاب المصطفة مع حركة "الديمقراطية المسيحية" أو الانقسام اللغوي ـ السياسي في بلجيكا. ولكن جماعة "الإخوان المسلمين"، بصفتها أحد الأصوات الأكثر تنظيما في العالم الأوروبي المسلم، نجحت في تقديم نفسها كممثلة حصرية للمجتمعات المسلمة في أوروبا عبر الطيف الأيديولوجي الأوروبي، وقد ساهم التركيز السياسي مؤخرا على سياسة الهوية والتقاطع في هذا النجاح. ويشكل "اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا" (FIOE) خير مثال على هذا التقاطع.

اضطلعت جماعة "الإخوان المسلمين" بدور أساسي في انتشار هذه النزعة في أوروبا، كونها نجحت إلى حد كبير في تقديم نفسها كممثلة رئيسية للمجتمعات المسلمة في دول أوروبية متعددة

سرعان ما لاحظت تركيا في عهد إردوغان، الذي غيّر الطابع السياسي العلماني بشكل ملحوظ في تركيا ليصبح أقرب إلى الإسلام في خلال فترة حكمه، المنافع السياسية لقوة الإقناع والنفوذ لدى السياسيين الإسلاميين في أوروبا. 

تبدو الأحزاب السياسية مثل "نيانس" عازمة على حصد ثمار هذه العمليات والانضمام للمجالس التشريعية على الصعيد المحلي وربما الوطني أيضا. ومن الممكن جدا أن تستحصل "نيانس"، في غضون بضع سنوات، على أصوات من الديمقراطيين الاشتراكيين والخضر وحزب اليسار، وينضم إلى البرلمان أو، على الأقل، المجالس المحلية. ومن المرجح أن يعتبر إردوغان هذه النقلة في السياسة السويدية مكسبا لسياسته تجاه أوروبا.

على هذا النحو، يرى إردوغان على الأرجح أن أحزابا مثل "نيانس" ستكون بمثابة وسيلة فعالة للتأثير على الدول الأوروبية عبر المنظمات التي تعتبرها بوضوح من وكلائها السياسيين. 

لا يعني ذلك أن الأحزاب لا تعمل على قضايا شرعية أو ليس لديها أسئلة فعلية تستوجب المعالجة. فإلى جانب القضايا الفعلية المتمثلة بالتمييز (الفعلي أو الوهمي) وقضايا الفصل والعزل وافتقار السلطات لسياسات الدمج، سهلت السياسة الرسمية التي تعود لما يقارب 40 عاما والقائمة على تشجيع التعددية الثقافية وتبدية الجماعة على الفرد، وبذلك مناقضة أفكار الدمج والاستيعاب المعروضة أيضا، مهمة الأحزاب على غرار "نيانس" الذي يطالب بجعل الانتماء الديني للفرد، في هذه الحالة، العامل الحاسم في السياسة. بالتالي، يمكن لحزب "نيانس" أن يظهر على أنه "الورقة الرابحة" ويستقطب الناخبين الذين كانوا ليختاروا حزبا تقليديا آخرا في حالات أخرى.

ويعني هذا التطور أنه ينبغي على الهيئات الأوروبية الناظمة للسياسات أن تدرس بشكل معمق ومطول كيف يجب أن تتعامل بناها الديمقراطية مع سوء استخدام السلطة والمحاولات العدائية، خصوصا من قبل القوى الخارجية، لفرض تصنيف إسلامي غير مرغوب به على سكانها المسلمين.

المصدر: منتدى فكرة

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.