French President Emmanuel Macron delivers a speech in Breil-sur-Roya, southeastern France, on October 7, 2020, during a visit…
ماذا قال الرئيس الفرنسي لِيُحْدِث كلَّ هذا الضجيج الغاضب في دوائر الفاعلين المسلمين/ المتأسلمين؟

أثارت تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأخيرة موجة غضبٍ عند كثير من المسلمين، أو عند المتأسلمين على نحو أدق؛ بوصفها ـ كما يزعمون ـ تصريحات مُتَحيِّزة ضد الإسلام. بل وزاد بعضهم حتى وصفها بأنها تصريحات تُعبّر عن كراهية عميقة للإسلام، إضافة إلى وصف بعضهم الآخر لها ـ في سياق تخرّصات الغضب ذي الطابع القومي؛ رغم إسلاميته!ـ بأنها تصريحات "عنصرية"، تتنافى مع أهم مبادئ التنوير التي تأسست عليها الجمهورية الفرنسية التي يتحدث ماكرون بلسانها في تصريحه المثير. ثم هو يتحدث بصفة أساسية عن المسلمين في فرنسا، أي عن واقع/ وقائع داخل جمهورية التنوير؛ حتى وإن كان في هذا السياق الفرنسي الخاص لم يُغْفل الإشارة إلى واقع الإسلام بشكل عام؛ لكون ما حدث ـ ويحدث ـ لـ"الإسلام العالمي"/ الإسلام في العالم، من حيث التحولات والمتغيرات والأزمات، ينعكس بشكل مباشر على "الإسلام الخاص"/ الإسلام في فرنسا.

ماذا قال الرئيس الفرنسي لِيُحْدِث كلَّ هذا الضجيج الغاضب في دوائر الفاعلين المسلمين/ المتأسلمين؟ كان أبرز ما قاله ـ وبكثير من التلطّف والاحتراز ـ: "الإسلام ديانة تمُرّ بأزمة في كل بقاع العالم اليوم"، كما أشار إلى أن التطرف ينتشر بين المسلمين، وأن أقليّة من المسلمين في فرنسا يُمثِّلون خطرَ تشكيلِ "مجتمع مضاد"، في سياق التحذير من "الانعزالية/ الانفصالية الإسلامية". وحديثه هذا كان في ضاحية من ضواحي باريس المعروفة بالطابع الإسلامي المتشدد، أي في الضاحية التي يُحاول فيها المتطرفون إقامة ما يشبه تجربة "الانفصال الشعوري" التي تحدث عنها قديما سيد قطب، بل وأحيانا إلى ما يشبه مناطق لـ"الحكم الذاتي" للمتطرفين.

هل في هذا التوصيف المذكور آنفا، وما رافقه من إشارات وملابسات واقعية، خطأ يستحق بعض هذا الغضب المجاني؟ المشكلة أن هذا الغضب لم يصدر فقط عن أفراد متناثرين على امتداد فضاء النشاط الوعظي/ الدعوي الإسلامي؛ بحيث نُحِيل الأمر إلى مسؤوليات فردية لها ظروفها الخاصة التي لا يجوز تعميمها، بل صدر الغضب المجاني عن مؤسسات دينية كبرى على امتداد العالم الإسلامي، وصرّحت به بعض الدول على ألسنة كبار مسؤوليها (تركيا كمثال)، وتنادت به فضائيات وصحف وأقلام معروفة، وكلها تصف "تشخيص" الرئيس الفرنسي للحالة الإسلامية بأنها عدوان على الإسلام ذاته، وليس فقط على المسلمين.

التراث الذي تشتغل عليه الآلة الفقهية في أهم مؤسسات التشريع في العالم الإسلامي؛ لم يُرَاجَع إلى الآن، بل هو اليوم يُؤخَذ ويطبق ـ أو يُدْعَى لتطبيقه ـ كما كتب قبل ألف عام

بحق، الرئيس الفرنسي لم يقل إلا حقا، بل لم يقل إلا بعض الحق؛ رفقا ولطفا بمشاعر "مَن لا يفهم" القول ـ أي قول ـ إلا على مُتَمَفْصِلا على ثنائية الوعي الضدّي. ما قاله الرئيس الفرنسي هو ما أقوله وأؤكد عليه منذ بدأت الكتابة التشخيصية/ النقدية للحالة الإسلامية/ لحال الإسلام، قبل ثمانية عشرا عاما. 

نعم، "الإسلام ديانة تمر بأزمة في كل بقاع العالم اليوم"، قلتها مرارا وفي أكثر من مقال. وعندما نقول: الإسلام، فنحن لا نقصد: "نصوصه الأولى المقدسة" (المفتوحة بطبيعتها على فضاء تأويلي واسع)، وإنما نقصد: الإسلام المتمثل في المسلمين كوقائع مُتَعيّنة للإسلام/ كتجسيد تأويلي راهن للإسلام، أي الإسلام في واقع المسلمين، الإسلام المعاش، الإسلام المسطور في ملايين الكتب والخطب والمواعظ والدروس والمحاضرات والمنشورات وبرامج الحركات والأحزاب...إلخ الذي يتشكل به وعي الأغلبية الساحقة من مسلمي اليوم. هذا الإسلام يمرّ بأزمة، ويتسبّب للعالم بأزمة، وتزاد حدة التأزم؛ كلما فرضت الاحتياجات المعيشية مزيدا من التواصل مع الآخر، حتى يكاد يكون الإسلام اليوم مشكلة مستعصية على الحل في كل مكان، لا في الغرب أو الشرق فحسب، وإنما حتى داخل نطاق العالم الإسلامي.

كل الديانات الكبرى، وكل الثقافات العريقة، وكل المجتمعات الإنسانية المتحدرة عن حضارات راسخة، تصالحت مع العالم الحديث، وتكيّفت ـ بأعلى وأرقى درجات التكيّف ـ مع العالم الحداثي، مع العالم المعاصر المتغرّب؛ دونما عُقَدٍ واضطرابات؛ إلا أتباع الثقافة الإسلامية التقليدية الرائجة اليوم في عالم المسلمين، فهؤلاء يزدادون تأزما كل يوم؛ فيما بقية البشر يزدادون ـ بمرور الأيام ـ تحرّرا من شروط التأزم القديم.

إنه لمن الغريب والمريب والمُحزن في آن، أن الإسلام ـ مُمَثَّلا في المسلمين وفي تدينهم الرائج ـ يعيش اليوم في أزمة مع نفسه ومع العالم؛ بأشد وأقسى وأعقد مما كان عليه حاله مطلع القرن العشرين. فبينما يُفتَرَض بالإسلام/ بالمسلمين أن تتطور لياقته/ لياقتهم في التكيف مع العصر في سياق الانفتاح التواصلي والإعلامي والثقافي المتسارع مع الآخر، نجد الأمر على العكس، نجدهم يسيرون في خط عنادي، يغالي في تزمته وانغلاقه وانفصاله عن الآخر؛ كلما كانت الحاجة أكبر للانفتاح، بل ويمعن في ذلك؛ كلما توفّرت وسائل أكبر وأيسر للانفتاح.

إن الإسلام الذي طرحته الإصلاحية الدينية أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، على لسان محمد عبده مثلا، يبدو أكثر تسامحا وانفتاحا وتواصلا مع الآخرين، من الإسلام الأصولي التقليدي في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، هذا الإسلام التراثي الأثري الذي أصبح الحويني (من غير إغفال لدور غيره من كبار الفاعلين في التأسيس السلفي التقليدي) رمزه الأكبر بامتياز.

لم يتصور محمد عبده، وبقية نشطاء الحركة الإصلاحية قبل 120 عاما أن الدروس، والمحاضرات، والخُطب، والكتب، والمنشورات التوعوية، والمطبوعات التوجيهية، وبرامج الإفتاء التقليدية، على امتداد العالم الإسلامي، ستكون متخمة بأسئلة سلفية/ تقليدية ذات طابع انغلاقي صارخ؛ من نوع: هل يجوز لي تهنئة غير المسلم بالسنة الجديدة؟ هل يجوز لي تهنئة غير المسلم بالعيد؟ هل يجوز لي إلقاء التحية على غير المسلم ابتداء؟ وإذا هو/ غير المسلم ألقى التحية عليَّ؛ فهل يجوز لي أن أرد؟ وما هي الصيغة الشرعية في الرد؟ هل أرد عليه نصَّ التحية أم أقول فقط: وعليكم؟ وإذا ابتسم في وجهي؛ هل يجوز أن أبتسم في وجهه؟ وهل يجوز لي الاحتفال بعيد ميلادي (من باب أنه عادة غربية غير معروفة في تاريخ المسلمين)؟ وهل يجوز لي حضور عيد رأس السنة مع غير المسلمين؟ وهل يجوز لي أن أقول لغير المسلم: أحبك؟ وهل يجوز أن آكل مع غير المسلم...إلخ هذه الأسئلة التي تدّل على أزمة عميقة في مسار الاشتباك التواصلي مع الآخر، والتي لم تكن مطروحة على بساط البحث الشرعي في الخطاب الإصلاحي قبل مئة عام.

الرئيس الفرنسي لم يقل إلا حقا، بل لم يقل إلا بعض الحق؛ رفقا ولطفا بمشاعر "مَن لا يفهم" القول ـ أي قول ـ إلا على مُتَمَفْصِلا على ثنائية الوعي الضدّي

لم يَتخيّل الإسلام الإصلاحي بداية القرن العشرين أن المسلمين بعد قرن كامل سيقطعون أشواطا طويلة، ولكن إلى الوراء، إلى الانغلاق والانعزال الواقعي والشعوري عن "العالم المعاصر" الذي باتوا يشعرون أنه مختلف عنهم، بل وأنه مُعادٍ لهم، وأن هذا الشعور بات يتنامى بمرور الأيام حتى تحوّل إلى مرض نفسي يكاد يكون خاصا بالمسلمين. 

لم يكن رجالات ذلك الإصلاح يتخيّلون أن يصبح كتاب ابن تيمية: "اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم" كتابا شبه مقدس في تقرير كيفية تعامل المسلم مع غير المسلمين (الكتاب يتأسس على فكرة أن "الصراط المستقيم" الذي يدعو المسلمون في كل صلواتهم أن يهديهم الله إليه، يقتضي ـ ضرورة ـ مخالفة "أصحاب الجحيم"، الذين هم غير المسلمين. فموضوع الكتاب كله قائم على وجوب الاختلاف التمايزي ـ ذي النفس العدائي في كل شيء ـ عن غير المسلمين).

ربما يذكر بعض القرّاء حديثي عن شخصية "الشيخ عثمان" في مقالي الذي كان بعنوان: "عولمة ابن تيمية"، حيث تُمثّل هذه الشخصية نموذجا فرديا للخطر العام الذي تحدث عنه الرئيس الفرنسي. فالشيخ عثمان (وهو اسم مستعار لشخصية واقعية)، رجل عربي يعيش في أكثر دول أوروبا حرية وتسامحا/ هولندا، منذ كان طفلا في الثانية عشرة من عمره؛ وإلى اليوم، وهو عند لقائي به كان في الرابعة والخمسين، أي أنه يعيش في هولندا منذ اثنين وأربعين عاما. ومع هذا، وبفعل برامج الوعظ الإسلامي المنتشر في المساجد والمراكز الإسلامية التي تستورد "إسلامها" من معاقل التقليدية في العالم الإسلامي، تحوّل هذا الشاب إلى منغلق أشد ما يكون الانغلاق، إلى متطرف إسلاموي ليس لديه استعداد لقبول المسلمين المختلفين عنه في هذا التفصيل العقدي أو ذاك، فضلا عن غير المسلمين الذين بات يعيش معهم في "مودة ظاهرية"، بينما هو يكرههم في العمق، ويسعى حثيثا، وبشكل دؤوب ذي طابع تعبّدي، للانفصال عنهم شعوريا على كل المستويات.

حقيقة، لا أدري لماذا نغضب من تشخيص الرئيس الفرنسي لحالنا، بل لا أدري حتى لماذا نُنْكر أصلا هذا التشخيص الدقيق، وكأننا نخدع أنفسنا بخداعنا للآخرين، أو كأننا في عصر يمكن فيه "إخفاء الأسرار الفكرية/ العقدية" المضنون بها على غير أهلها؛ فكيف بما هو معلن على رؤوس الأشهاد في البرامج والدروس والخطب والمحاضرات؟

مشكلتنا تجمع بين "الجهل الموروث" المتداول بوصفه علما، و"العقد النفسية" المتراكمة؛ حتى بتنا نتصور أننا بمجرد نفي المشكلة/ نفي التهمة؛ تنتفي التهمة حقيقة من الواقع، ونصبح أبرياء من التشريع لمقولات الانفصال والانعزال: التطرف والانغلاق.

ثمة مسائل حيوية عالقة؛ لم تُرَاجع مراجعة جذرية إلى اليوم؛ رغم كونها مصدر إشكال دائم. التراث الذي تشتغل عليه الآلة الفقهية في أهم مؤسسات التشريع في العالم الإسلامي؛ لم يُرَاجَع إلى الآن، بل هو اليوم يُؤخَذ ويطبق ـ أو يُدْعَى لتطبيقه ـ كما كتب قبل ألف عام. عندما تحدّث أبو إسحاق الحويني ـ كأكبر شيخ سلفي معاصر ـ عن الجهاد، وأن الجهاد (وما يتبعه من سبي واسترقاق وبيع البشر في الأسواق) هو الحل الأمثل لمشكلة الفقر التي تواجه العالم الإسلامي، لم تتدخل المؤسسة الدينية الرسمية الأزهرية في مصر (بلد الحويني)، وتعيد صياغة المفاهيم الراسخة المتوارثة حول الجهاد؛ على الرغم من الجماهيرية الكبيرة للحويني، وخطورة أطروحته في هذا السياق. 

هذا النوع من الإسلام المتطرف لا شك أنه يُشَكّل كارثة على المسلمين في المهجر الغربي، وعلى المجتمعات الغربية التي تحتضنهم بكرم باذخ؛ بقدر ما يُشكّل كارثة على المسلمين في العالم الإسلامي

طبعا، لم يتدخل الأزهر (مع أنه تدخّل مؤخرا للرد على تصريح الرئيس الفرنسي!)؛ لأنه ـ بتصميمه التراثي ـ لا يستطيع الاستدراك بشيء على ما قاله الحويني؛ لأن الحويني لم يقل إلا ما أكّده التراث، والأزهر لا يستطيع الاعتراض على ما قاله التراث (سبق وأن كتبت مقالا بعنوان: الأزهر والعقل التراثي)، فكيف يستطيع مساءلة وتفكيك المسائل الإشكالية في هذا التراث؟!

وحتى ندرك حقا كيف أن "الإسلام ديانة تمرّ بأزمة في كل بقاع العالم اليوم"، لنتأمل حال علاقة جماهير المسلمين بالمؤسسات الدينية في العالم الإسلامي، سنجد أن هذه المؤسسات تكتسب ثقة الجماهير وتأييدهم ـ وبالتالي تقليدهم ـ؛ بعمق درجة تقليديتها وانغلاقها، أي كلما كانت هذه المؤسسات أكثر انغلاقا وتقليدية ومنابذة للآخر؛ كانت أكثر وُثُوقيّة عند جماهير المتدينين. ما يعني أن الوعي الديني السائد وعي مأزوم، وأن القلة المستنيرة التي تدعو لتديّن معتدل/ متسامح، تديّن تواصلي متصالح مع العالم، غير مقبولة من المؤسسات الراسخة؛ بمقدار ما هي غير مقبولة جماهيريا. وبطبيعة الحال، هنا تفاعل جدلي بين المؤسسات ورسوخها من جهة، والجماهير من جهة أخرى؛ بحيث يتعذر تحديد نقطة البدء في تأكيد الانغلاق، كما يتعذر تحديد نقطة البدء في حلحلة هذا الانغلاق.

إذن، فرنسا، والعالم الغربي الحر بأجمعه، ليسوا ضد الإسلام من حيث هو إسلام/ دين مختلف، ليسوا ضد الإسلام المعتدل/ المتسامح الذي يقبل الآخر ـ دونما عُقَد عقائدية، واحترازات تواصلية، وتوجّهات تمايزيّة/ انفصالية ـ، وإنما هم ضد إسلام تقليدي أصولي يستبطن عداء للآخر، يكره الآخر لمجرد الاختلاف الديني، ويرى نفسه مختلفا، وأنه يجب أن يبقى مختلفا، بل ويرى أن "صوابه العقدي" كامن في هذا الاختلاف. هذا النوع من الإسلام المتطرف لا شك أنه يُشَكّل كارثة على المسلمين في المهجر الغربي، وعلى المجتمعات الغربية التي تحتضنهم بكرم باذخ؛ بقدر ما يُشكّل كارثة على المسلمين في العالم الإسلامي، أولئك الذين لن يستطيعوا التصالح مع العالم ـ ومن ثم مع أنفسهم ـ؛ ما لم يتحرّروا من رُهَاب نقد التراث/ تراثهم الديني على نحو خاص.

FILE - A U.S. Marine watches a statue of Saddam Hussein being toppled in Firdaus Square in downtown Baghdad on April 9, 2003…
"حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة صدام اسمك هز أميركا".

يصادف هذا الشهر بدء عامي العشرين في الولايات المتحدة، وهي بلاد انتقلت إليها للمساهمة في نشر الحرية والديمقراطية في دنيا العرب. لم يأت التغيير العربي الذي كنت أحلم به، فاتخذت من أميركا وطنا لي، وأكرمتني وأكرمتها، وأحببتها، وصرتّ أحدّث بنعمتها. لكن المقال هذا ليس عن الولايات المتحدة، بل عن خيبات الأمل العربية التي عشتها مرارا وتكرارا، والتي أثرت بي ولم أؤثر بها، والتي أفقدتني كل الأمل بالتغيير والتطوير والمستقبل في المشرق العربي وعراقه.

هذه الرحلة بدأت مع سنوات نضالي الطلابي في صفوف اليسار اللبناني. كنا تعتقد أن الطغاة هم أزلام الإمبريالية، زرعتهم بيننا لقمعنا وحماية إسرائيل، وأن العراقيين أكثر الشعوب العربية المتعلمة والمثقفة، شعب المليون مهندس. كنا نردد أن الأسد يحتل لبنان بمباركة أميركية وإسرائيلية، وكنا نصرخ "أسد أسد في لبنان، أرنب أرنب في الجولان".

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. انقلبت أميركا على إمبرياليتها، وأطاحت بصدام، وفتحت الباب للعراقيين للبدء من نقطة الصفر لبناء دولة حرة وديمقراطية. كنت أول من آمن ببناء العراق الجديد. زرت بغداد، وحوّلت منزل العائلة إلى مكتب مجلة بالإنكليزية اسميناها "بغداد بوليتين". بعد أشهر، قتل إرهابيون أحد صحافيينا الأميركيين، فأقفلنا وهربنا. ثم عرضت علي محطة أميركية ناطقة بالعربية يموّلها الكونغرس فرصة عمل في واشنطن. مهمتي كانت المساهمة في بناء القناة العراقية لهذه المحطة. كان مقررا تسمية القناة "تلفزيون الحرية"، لكن الرأي استقرّ على اسم مرادف، فكانت "الحرة".

حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة "صدام اسمك هز أميركا". على عكس ما كنت أعتقد وأقراني العرب، الأميركيون لم يسمعوا، ولم يأبهوا، بالعراق، ولا بإيران، ولا بباقي منطقة المآسي المسماة شرقا أوسطا. المعنيون بالسياسة الخارجية الأميركية هم حفنة من المسؤولين والخبراء وكبار الضبّاط. 

لم يكد يمرّ عامين على انتقالي إلى واشنطن حتى قتل "حزب الله" رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري، حسب الحكم الصادر عن محكمة الأمم المتحدة. أصدقائي في لبنان ممن اتهموني بالخيانة والانتقال إلى صفوف الإمبريالية الأميركية في حرب العراق تحوّلوا وصاروا مثلي، يرون في الولايات المتحدة مخلصا من "القضية" و"المقاومة" و"الممانعة" و"التحرير" التي صارت تلتهمهم. نفس مشكلة العراق، كذلك في لبنان، كيف ينجب شعب قبلي طائفي لا يفهم معنى الحرية أو الديمراطية دولة ديمقراطية؟ 

غرقت "انتفاضة الاستقلال" اللبنانية في بحيرة من الدماء، من الحريري إلى العزيز سمير قصير وبعدهما زهاء 20 سياسيا واعلاميا وضابطا كان خاتمتهم الصديق لقمان سليم. أما القاتل، فلبناني يعمي بصيرته فكر قروسطوي وتعصب مذهبي وعشائري، ويقضي على اداركه أن المواطنية والديمقراطية في مصلحته، وأن مصائبه ومصائب لبنان سببها غياب الحرية والديمقراطية، وأنه لا يمكن للإمبريالية، ولا للسفارات الغربية، ولا لإسرائيل، أن تهتم بمصير ومستقبل لبنان وخلاصه أكثر من اللبنانيين أنفسهم .

في العام 2006، هاجم "حزب الله" إسرائيل، فاندلعت حرب، ووقف عدد كبير من اللبنانيين ضد ميليشيا "حزب الله"، ورحنا نتظاهر أمام البيت الأبيض، فما كان إلا من السوريين الأميركيين أن عيبونا واتهمونا بالخيانة، وحملوا أعلام "حزب الله" وصور نصرالله. السوريون أنفسهم عادوا فأدركوا أن نصرالله، وبشار الأسد، وأصحاب القضية لا يقاتلون لحمايتهم، بل للبقاء متسلطين عليهم. بعد اندلاع ثورة سوريا في 2011، انقلب هؤلاء السوريون أنفسهم، مثل العراقيين واللبنانيين قبلهم، من قوميين عرب صناديد الى أعداء العروبة ومؤيدي الإمبريالية والغرب والديمقراطية.

وحدها غالبية من الفلسطينيين لم تدرك أن كل أرباب القضية والتحرير والمقاومة هم مقاولون منافقون. هللت غالبية من الفلسطينية لصدام، ولاتزال تهلل للأسد وقاسم سليماني وعلي خامنئي. لم يدرك الفلسطينيون ما فهمناه أنا وأصدقاء من العراقيين واللبنانيين والسوريين: إسرائيل شمّاعة يعلّق عليها العرب فشلهم في إقامة دول. لا توجد مؤسسات عربية من أي نوع أو حجم قادرة على العمل بشفافية أو يمكن الإشارة اليها كنموذج عمل مؤسساتي. كل نقيب في لبنان أورث النقابة لولده، وكل رئيس ناد رياضي فعل الشيء نفسه. حتى المفتي الجعفري الممتاز في لبنان أورث منصبه إلى ابنه. ثم يقولون لك إسرائيل وسفارة أميركا والإمبريالية.

قبل ستة أعوام، بعد مرور أعوام على استقالتي من الحرة وانقطاعي عنها، تسلّم رئاسة القناة أميركي مثقف من الطراز الرفيع، فقلب المحطة رأسا على عقب، وطوّر موقعها على الإنترنت، وقدم الفرصة لكتّاب مثلي للنشر أسبوعيا. 

على مدى الأسابيع الـ 290 الماضية، لم أنقطع عن الكتابة أو النشر ولا أسبوع. مقالاتي تمحورت حول شرح معنى الحرية والديمقراطية وأهميتهما، وأهمية أفكار الحداثة وعصر الأنوار الأوروبي، والإضاءة على التاريخ الغني للعرب، والتشديد على ضرورة التوصل لسلام عربي فوري وغير مشروط مع إسرائيل. ناقشت في التاريخ، والأفلام العربية والمسلسلات، والسياسة والاجتماع. رثيت أصدقاء اغتالتهم أيادي الظلام في بيروت وبغداد. 

بعد 20 عاما على انخراطي في محاولة نشر الحرية والديمقراطية والسلام، أطوي اليوم صفحة تجربتي مع الحرة، في وقت تضاعف يأسي وتعاظم احباطي، وتراجعت كل زاوية في العالم العربي على كل صعيد وبكل مقياس، باستثناء الإمارات والسعودية والبحرين. حتى أن بعض الدول العربية انهارت بالكامل وصارت أشباه دول، بل دول فاشلة ومارقة يعيش ناسها من قلّة الموت.

لن تأتي القوة الأميركية مجددا لنشر الحرية أو الديمقراطية بين العرب. تجربتها بعد حرب العراق ومع الربيع العربي علّمتها أن لا فائدة من محاولة تحسين وضع شعب تغرق غالبيته في نظريات المؤامرة، وتتمسك بتقاليد قرسطوية تمنع تطور ثقافة الديمقراطية لبناء دولة حديثة عليها.

اليوم، أترجّل عن مسرح الحرة. سأواصل سعيي لنشر مبادئ الحرية والديمقراطية عبر مواقع أخرى، في مقالات ودراسات وتغريدات وغيرها، لكن رهاني على التغيير انتهى. المحاولات ستتواصل حتى لو بلا جدوى، عسى ولعل أن يسمع الصوت من يسمعه.