عندما اكتُشفت الحالة الأولى في الأردن لدى فردٍ سافرَ إلى إيطاليا في 2 مارس، كانت الاستجابة سريعة. فسُمِعَت في شهر مارس صفارات إنذار الغارة الجوية، التي دعت إلى حظر كامل للتجوّل وإلى التباعد الاجتماعي، وهي أمور لم تشهد مثلها الأمة منذ سبتمبر 1971.
وتضمّنت أيضا آلية الاستجابة المبكرة في هذا البلد شبه الريعي والمتعطّش إلى الموارد حجر 5,000 زائر آتٍ من الخارج في 30 فندقا من فئة خمس نجوم على نفقة الحكومة، وتقع هذه الفنادق بمعظمها قرب البحر الميّت.
ويبدو أنّ هذه التدابير الأولية ـ وهي من التدابير الأكثر تشددا في المنطقة بأكملها ـ حقّقت الأثر المنشود. فبقي عدد المصابين بكوفيد-19 في الأردن منخفضا منذ التبليغ عن الإصابة الأولى؛ وابتداءً من 10 أبريل، بلغ العدد الإجمالي للحالات المؤكَّدة في المملكة 372، مع 7 حالات وفاة و161 حالة تعافي ـ مع أن هذا العدد يتأثر أيضا من دون شكّ بالعدد المحدود من الاختبارات حتى اليوم.
ويبدو أن الضرورة هي التي دفعت الأردن إلى الاستجابة؛ فكان تصاعد عدد الإصابات الذي شهدته عدة بلدان ليؤدي إلى الدمار، سواء على صعيد الحياة البشرية أو النتائج المترتّبة على الاقتصاد. لكن أحدث انتشار فيروس كورونا أثرا لدرجة أن التدابير الشاملة في الأردن وضَعته في مأزقٍ هو: استمرار الحماية الداخلية والخارجية للشعب فيما تصيغ الأعداد الكبيرة من السكان اللاجئين والتحديات الاقتصادية في البلد استجابة الأردن المستمرة. فسيواجه الأردن على الأرجح، كبلدٍ شبه ريعي ومتعطّش إلى الموارد، تحدّياتٍ عميقة في المستقبل، حتّى لو بقيت نسبة الإصابات منخفضة.
تسطيح المنحنى
في مقابلة شخصية أُجريَت ضمن اتصال هاتفي مع البروفيسور فيصل عودة الرفوع، أشار الوزير السابق للتنمية الاجتماعية والثقافة والعمل والصحة في 9 أبريل إلى أن التعاون بين الوكالات والتأييد الشعبي كانا يساهمان في تنفيذ تدابير التباعد الاجتماعي. وصرّح الوزير السابق أن "الأردن هو مجتمع ملتزم بالقوانين. ويطيع حوالي 95 في المئة من الشعب القانون، لذا عندما وُجِّه نداء حظر التجوّل، تبعَ الشعب التوجيهات ـ وساعد ذلك في السيطرة على انتشار الفيروس بشكل هائل".
ومع ذلك، في خلال وقتٍ قصير، قرّر المسؤولون الأردنيون أن الحظر الكامل للتجوّل سيزيد الوضع سوءا، وسمحوا ببعض التساهل على صعيد زيارة متاجر البقالة للحصول على الضروريات الأساسية بعد 23 مارس.
بنية الاقتصاد في الأردن تجعله ضعيفا بشكل خاص إزاء حظر التجوّل
بالتنسيق، استخدم البلد قواته المسلحة إلى جانب قوات أمنيّة أخرى من أجل إيصال الإمدادات مثل الطعام والماء والنفط والضروريات الأخرى إلى مختلف المجتمعات، لا سيما إلى مخيمات اللاجئين في الأردن. فتبيّن أن الجيش نافع ليس فحسب في ضبط حركة السكّان ومراقبتها في خلال هذه الأزمة، بل أيضا في تقديم الخدمات.
وبالإضافة إلى ذلك، تم تأمين خدمات الإنترنت المجانية إلى الناس والتدريس على هذه الشبكة. ووفقا للوزير الرفوع، سهّلت الحكومة توزيع المال النقدي على الطبقات المحرومة، ويتقاضى موظّفو القطاع العام دفعات كاملة، ويجري حثّ القطاع الخاص على توفير "100 في المئة من الرواتب إلى الموظّفين الذين يعملون من المنزل، وعلى الأقل 50 في المئة إلى الذين لا يعملون بسبب عدة قيود".
لمّح الوزير إلى أنّ هذه التدابير لاقت ثمارها، مشيرا إلى المناطق الخالية من الفيروس كدليل واضح على النجاح. وقال: "يخلو جنوب الأردن تماما من الفيروس؛ ولا تتواجد الإصابات المعروفة سوى في عمان وإربد والزرقاء. ويُظهِر هذا أن الوضع تحت السيطرة على العموم في البلد".
ومع ذلك، إن عمان وإربد والزرقاء هي المراكز الحضرية الثلاثة الأكثر اكتظاظا بالسكان في الأردن؛ فيعيش في عمان نصف سكان البلد تقريبا، وتأوي المدن الثلاث ما يقارب 83 في المئة من اللاجئين السوريين في البلد الذين يبلغ عددهم 1.6 مليون لاجئ.
التعقيدات في المجتمع الأردني
يواجه الأردن عدة تحديات في إنشاء الاستجابة بسبب خصائص البلد الديموغرافية. فنسبة السكان اللاجئين في الأردن ملحوظة مقارنة بحجم البلاد. وذكرَ البروفيسور الرفوع إحصاءات اللاجئين التي تبلغ 2.6 مليون لاجئ فلسطيني، ومليون لاجئ عراقي، و1.6 مليون لاجئ سوري [مسجّل].
وبعد مقارنة البيانات من عدة مصادر مثل "وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين" ("الأونروا")، والمصادر الحكومية الأردنية، و"المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين"، والمصادر المستقلة، يمكن القول إن أعداد اللاجئين في الأردن قريبة من الأعداد التي أشار إليها الوزير السابق الرفوع وتبلغ حوالي 2.1 مليون لاجئ فلسطيني و0.5 مليون لاجئ عراقي، و1.6 مليون لاجئ سوري؛ أي ما يقارب 4.2 مليون لاجئ في الأردن. وعند إضافة العدد التقريبي للعمّال الأجانب في الأردن، الذين يأتي أغلبهم من المنطقة، يصل هذا الرقم التقريبي من غير المواطنين في الأردن إلى أكثر من 5 مليون ـ أي ربّما أكثر من نصف إجمالي عدد السكان التقريبي في الأردن الذي يبلغ 9.7 مليون.
يتسبب ذلك بضغط سكاني حادّ على الموارد الوطنية المحدودة. فبالنسبة إلى عدة لاجئين في الأردن، يعني وضعهم غير الاعتيادي أنّ الكثيرين منهم غير مؤهّلين للاستفادة من قنوات المساعدة الأجنبية المألوفة. فمعظم اللاجئين العراقيين غير مسجّلين كلاجئين، ويُشار إليهم بدلا من ذلك بـ"ملتمسي اللجوء"؛ ويُعتبَر عدة فلسطينيين بشكل رسمي "ضيوفا" في البلد؛ وتنطبق هذه الاعتبارات نفسها على حوالى نصف اللاجئين السوريين، وبالتحديد أولئك الذين كانوا يعملون مسبقا في الأردن قبل بداية النزاع السوري في عام 2011.
سيتعيّن على الأردن على الأرجح الابتعاد عن نزعته شبه الريعية
وما يُفاقِم الصعوبات العملية، في المملكة الهاشمية، هو أن 83 في المئة من اللاجئين يعيشون خارج المخيّمات ويختلطون مع المجتمعات الأردنية المجاورة. كما أن التواجد الكبير للاجئين من مختلف أنحاء المنطقة ولّد عدة أنواع من القوميات المتعادية، ما يجعل بالتالي الأردن مجتمعا معقدا وتعدديا.
لمّح الملك عبد الله الثاني إلى هذه التعقيدات في خطاب 23 مارس الموجَّه إلى الأمة عندما علّق قائلا: "إخواني وأخواتي، عائلتي الكبيرة، أبناء شعبي الذين أستمد منهم كل العزيمة، اليوم كل واحد منكم جندي لهذا الحِمى، كل من موقعه". والجدير بالملاحظة هو أن هذا الخطاب يستخدم أيضا، عند الإشارة إلى الأردنيين، عبارات أكثر انفتاحا مثل ’إخواني وأخواتي‘ و’عائلتي الكبيرة‘ و’أبناء شعبي‘ للتوجه إلى الجمهور.
إلى ذلك، إنّ بلوغ هذه المجتمعات أمر حيوي لاستراتيجية الأردن الإجمالية في ظلّ الوباء. ففي سياق كوفيد-19، إن اللاجئين غير المسجّلين وغير المتعارف عليهم المختلطين مع المجتمع هم الذين يصعب بالأحرى بلوغهم لإيصال الإمدادات. فبالنسبة إلى المقيمين في المخيّمات، تساعد طريقة التركيز على المنطقة الهدف/السكان الهدف على إيصال الضروريات.
وعلاوة على ذلك، من وجهة النظر المالية البحتة، أشار الوزير الرفوع إلى أن 75 ـ 85 في المئة من هبات اللاجئين تقدّمها الحكومة الأردنية. ويُثبت ذلك جزئيا التقرير الذي أصدرته في عام 2013 وزارة التخطيط والتعاون الدولي حول تمويل اللاجئين السوريين. لذلك، سيتمثّل التحدي الذي سيتعيّن على البلد مواجهته في إدارة العدد الضخم من سكّانه اللاجئين بعد فيروس كورونا.
التحديات الاقتصادية الطويلة المدى قد تكون أكثر جدية من تحدّيات الصحة العامّة
إن بنية الاقتصاد في الأردن تجعله ضعيفا بشكل خاص إزاء حظر التجوّل الضروري وتدابير الحجر اللازمة التي يطبّقها البلد. فقطاع الخدمات هو الأبرز في البلد، إذ يشكّل حوالي ثلثيْ إجمالي الناتج المحلّي الأردني.
وإلى ذلك، يرتبط البلد كثيرا بالاقتصاد العالمي، إذ يستورد حوالي 90 في المئة من سلعه الغذائية ولوازم الطاقة الخاصة به.
زادت تدابير الضبط الخاطئة وغير المناسبة تعقيد البنية الاقتصادية في البلد. فعلى سبيل المثال، تستهلك الزراعة في الأردن، التي كانت تشكّل بالكاد 5.6 في المئة من إجمالي الناتج المحلّي في عام 2018، أكثر من 50 في المئة من إجمالي المياه العذبة المتوافرة في البلد سنويا.
بسبب عمليات الإغلاق بعد انتشار كوفيد-19، إنّ قطاع الخدمات، أي القطاع الاقتصادي الأكبر، هو الذي سيُصاب في العالَم بشكل عام وفي الأردن بشكل خاص. فمع تزايد القيود الاقتصادية، يُحتمَل أن تُضطرّ الحكومة إلى اتخاذ المزيد من التدابير التقشّفيّة.
وسبق أن بذلت الدولة جهودا لتقليص برامج الرعاية الاجتماعية الخاصة بها منذ أوائل القرن الحادي والعشرين عبر إزالة بعض الإعانات على الغذاء والمياه والنفط. إلا أن هذه الخطوة لم تمرّ من دون أن يقابلها الاحتجاج؛ فأدّت الاقتطاعات إلى مجموعة من أعمال الشغب بسبب النقص الغذائي في البلد على مدى فترة من الزمن.
وبعد الوباء، من المحتمل أن يتأثر اقتصاد البلد أكثر فأكثر. وسيتعيّن على الأردن على الأرجح الابتعاد عن نزعته شبه الريعية. وقد تقود هذه العملية إلى المزيد من الاحتجاجات وربما إلى أعمال الشغب بسبب النقص الغذائي، كما في الزمن الماضي، ما يُنشئ تحديا إضافيا للبلد.
مع ذلك، علّق البروفيسور الرفوع قائلا إنّ "أزمة كورونا ستؤثّر بلا شك في الاقتصاد الأردني، لكنّها ستؤثّر كذلك في الاقتصاد العالمي، لذا لا يشكّل الأردن استثناء". وأضاف أيضا أن "طبيعة الحرب وطابعها قبل فيروس كورونا وبعده لن يبقيا على حالهما وسيحصل تبدّل هائل في الخطاب الدولي".
واعترف بواقع أنّ ذلك سيُدخِل الأردن في زمن صعب، لا سيّما على صعيد الضروريات الأساسية مثل الغذاء والمياه والطاقة، التي غدت كلّها في وضعٍ حرجٍ في البلد. غير أن الوزير ارتأى أنه رغم استيراد الحبوب، يحقق الأردن اكتفاء ذاتيا في الخضار والفاكهة واللحوم؛ ويعني ذلك أنّ آلية التأقلم، في حال تم تطبيقها، ستجعل الأمور قابلة للإدارة من وجهة نظر الأمن الغذائي.
سيكون الأردن قريبا بحاجة إلى إعادة التفكير في وضعه على المدى الطويل عقب الوباء
يواجه الأردن أيضا خسارة محتملة للمساعدة الأجنبية بما أنّ البلدان الأخرى تقلّص ميزانياتها الخاصة. ومع أن النسبة المئوية للمساعدة الأجنبية مقارنة بإجمالي الناتج المحلي انخفضت من 40 في المئة إلى حوالي 7 في المئة، لا تزال المساعدة الأجنبية تؤدي دورا في غاية الأهمية في الاقتصاد الأردني.
فعلى سبيل المثال، في خلال احتجاجات يونيو 2018 في البلد ضدّ ضريبة الدخل وزيادة تدابير التقشف، وفّرت بعض البلدان العربيّة الصديقة مثل الكويت وقطر والإمارات العربية المتحدة والسعودية بعض المساعدة الطارئة إلى الأردن. وعلى نحو مماثل، وفّرت الوكالات الأجنبية أيضا بعض التسهيلات والهبات التي ساعدت في معالجة الوضع.
وبالنسبة إلى الوزير الرفوع، سيكون الأردن بحاجة إلى التدفق المستمر للمساعدة الأجنبية من أجل دعم اقتصاده ما بعد فيروس كورونا أيضا. إلا أن هذا الاعتماد على المساعدة أمرٌ إشكالي على المدى الطويل، خاصة فيما تعاني البلدان المانحة أيضا في خلال التراجع الاقتصادي العالمي الذي يبدو حتميا. وبالتالي، قد يُضطرّ الأردن إلى التفكير مليا في تغيير توجهه الاقتصادي كليا قبل أن تجفّ هذه الأموال.
يمكن تبرير استجابة الأردن المبكرة وتنفيذه للقوانين وسياسات الاحتواء الصارمة نظرا إلى التحديات المتعددة التي تواجه البلد حتى قبل الوباء. لكن لا بدّ من فهم التدابير الحالية كمجرد مسكّن قصير المدى. فسيكون البلد قريبا بحاجة إلى إعادة التفكير في وضعه على المدى الطويل عقب الوباء. وبالنسبة إلى بلدٍ يعاني من ضغوطات اجتماعية واقتصادية وبيئية مشابهة، قد يشكّل فيروس كورونا جرس إنذار يدعو إلى اليقظة، فيحثّ على الانتقال من السياسة القائمة لضبط الأزمة إلى سياسة متينة لإدارة الأزمة وتهدئتها. ولا يمكن تطبيق هذه التغييرات سوى عبر الإرادة السياسية ـ وفي الحالتيْن، لا يمكن تفادي أهمية المخاطر.
المصدر: منتدى فكرة