Nurses take care of patients infected by COVID-19 going for an exam at the scanner unit at the Floreal clinic in Bagnolet, near…
ما يفعله الأطباء والطاقم الطبي اليوم، فضلا عن الباحثين وعلماء الفيروسات حول العالم، في ظل وباء كورونا أكبر دليل على قدرتنا على التاثير في المجتمع عبر نجاحنا في الجوانب الأخرى

أتذكر في أحد الدروس التي كنت أعطيها لبعض الموظفين الأميركيين هنا في الولايات المتحدة عن ثقافة وتاريخ المنطقة العربية، أنني اخترت فيديو عن حياة الدروز، بوصفهم أقلية في المنطقة. وكان هذا الفيديو يتناول وضع الدروز في إسرائيل، وكذلك في هضبة الجولان التي احتلتها إسرائيل من سوريا عام 1967.

الولاء للدولة

لأول مرة أعرف أن ثمة فرق بين دروز إسرائيل ودروز الجولان. ورغم أن الاثنين ينتميان إلى نفس الطائفة وهما على صلة وثيقة ببعضهم البعض، إلا أن دروز الجولان يعتبرون أنفسهم سوريين، ويرفضون تماما الهوية الإسرائيلية، بينما دروز الجليل مندمجون في المجتمع الإسرائيلي ويخدمون في الجيش وفي كافة أجهزة الدولة.

إحدى المتحدثات في الفيديو شرحت السبب في ذلك، قائلة إن الدرزي يكون ولاؤه إلى الدولة والأرض التي يعيش فيها، بصرف النظر عن أية اعتبارات أخرى. وأضافت أن هذا مبدأ لدى الدروز أينما كانوا وليس خاصا بمنطقة دون أخرى، وهو لا يؤثر على العلاقة فيما بينهم.

أقرب تأثير في الشؤون السياسية لا يأتي عادة من الانشغال فيها مباشرة

نفس هذا المبدأ وجدته لدى البهائيين أيضا. فهم مخلصون وعلى أتم الولاء لأية دولة أو بلاد يعيشون فيها، ولن تجد أي بهائي ينخرط في نشاطات تمس تلك الدولة أو تهدد سلامتها بأي سوء. حتى الدول التي تضطهدهم وتقمعهم وتقتلهم فإنهم لا يقومون بالمقابل بأية أعمال ضدها أو يؤلبون غيرهم عليها. لا يعني ذلك أنه ليست لديهم آراء أو مظالم يتحدثون عنها ويطالبون برفعها، ولكنهم لا يحولونها إلى أعمال معادية ضد الدولة.

المعارضة الزائفة

طبعا كثيرون في عالمنا العربي لا يقدرون هذا الأمر، بل ولا يستسيغونه أيضا. والبعض منهم من النادر أن يظهر الولاء لأية دولة أو بلاد يعيش فيها. إنهم يعتبرون الولاء أمرا مشينا، وحينما لا يجدون سببا لعدم الولاء أو الشكر فإنهم يتجهون إلى الدين، مرددين بأن الولاء لله وحده.

ومع أن الولاء لله لا يتناقض مع الولاء للدولة أو الوطن، إلا أنهم يجدون ثقلا وعنتا أن يبدون ولاء للدولة التي يعيشون فيها. فهم لا بد أن يجدوا عيوبا ونقائص تجعلهم يفرون إلى المعارضة والمشاغبة والشكوى.

والواقع أن التاريخ العربي يحفل بهذه الصور من الممانعة للولاء للدولة، والتمرد عليها، ولست أريد أن أعرض أمثلة هنا، فهي معروفة للجميع، ولكني أكتفي بالقول بأن ولاء الإنسان للدولة التي يعيش فيها هو أول شرط كي يتمكن الإنسان من الاعتناء بصورة حقيقية بنفسه ومحيطه الصغير. وهي أول علامة صحية على أنه بدأ يأخذ على عاتقه مسألة التغيير بصورة جدية.

الإنسان يصنع مصيره

بالطبع البعض يثير أسئلة من قبيل الظلم وعدم المساواة والاضطهاد وما شابه ذلك، وهي كلها أمور حقيقية ولا مجال أحيانا لنفيها، ولكن الحقيقة هي أن معظم هذه الأمور تمارس حين تشعر الدولة، أية دولة، بالخطر وبأن مواطنيها ينصرفون عنها. إنها قد تبالغ في هذا الأمر أو تخطئ أحيانا، لكنها تتصرف بوحي من غريزة البقاء. خلاف ذلك لا تستطيع أية دولة أن تمارس الظلم على مواطنين يبادلونها الولاء، وإلا تصبح هي تميز ضد نفسها، وهذا غير معقول.

لعل النجاح الذي يحققه الدروز والبهائيون، سواء في بيئاتهم الأصلية أو حول العالم، هو أمر يجدر بنا جميعا أن نتأمل فيه

إن الإنسان في العادة يبذل طاقة نفسية هائلة في إعداد نفسه وتجييشها ضد الدولة (وجزء كبير من ذلك يأتي من آخرين يسمح الإنسان لهم بالتأثير عليه وتثويره)، وهو ينضم إلى أحزاب أو جماعات أو اتجاهات تريد تحطيم الدولة، أو النيل من الحكومة التي تمثل هذه الدول بصورة من الصور، ولأسباب خاصة بتلك الجماعات، ولكنه لا يبذل أي جهد لإظهار أنه يمكنه أن يتحكم في مصيره بنفسه، على الأقل في حيزه الصغير، وأنه يستطيع أن يغير حياته إلى الأفضل بصورة حقيقية من دون المرور بدوامة العنف والكره والتأجيج التي تطحنه قبل الآخرين.

ولعل النجاح الذي يحققه الدروز والبهائيون، سواء في بيئاتهم الأصلية أو حول العالم، هو أمر يجدر بنا جميعا أن نتأمل فيه.

التأثير من خارج السياسة

ما الذي يضير الإنسان إذا ترك الانشغال بالسياسة واتجه إلى الانشغال بالحياة. هذا ليس انهزاما أو تركا للمسؤولية، فالإنسان بإمكانه أن يصوت أو يبدي أي شكل من أشكال المعارضة السياسية الإيجابية ضمن القوانين التي تسمح بذلك، ولكن هذا جزء من الحياة وليس الحياة كلها.

مع أني شخصيا أعتقد أن أقرب تأثير في الشؤون السياسية لا يأتي عادة من الانشغال فيها مباشرة، وإنما يأتي من قدرتنا على التاثير في المجتمع عبر نجاحنا في الجوانب الأخرى، وبما يجعلنا في النهاية نؤثر في السياسة، ولكن بصورة حقيقية. ولعل ما يفعله الأطباء والطاقم الطبي اليوم، فضلا عن الباحثين وعلماء الفيروسات حول العالم، في ظل وباء كورونا أكبر دليل على ذلك. 

فهؤلاء ليسوا سياسيين ولا يمثلون سوى أنفسهم، ولكن جهودهم ومعارفهم وعلومهم وآرائهم هي التي يتطلع إليها الناس، بما في ذلك السياسيون، وهي التي تعمل فرقا في الأشياء وتحدد الطريقة التي يجب أن تتصرف بها الحكومات والسلطات المختلفة للتعامل مع هذا الوباء والآثار الناجمة عنه.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.