Mahmoud Jibril, head of the National Forces Alliance, speaks during a news conference at his headquarters in Tripoli July 8,…
محمود جبريل خلال مؤتمر صحفي في طرابلس الغرب في العان 2012

في أبريل من عام 2014، كنا في فرساي الفرنسية على تخوم العاصمة الفرنسية باريس، مجموعة من أربعة صحفيين عرب نحاور على مدار ساعتين مسجلتين تلفزيونيا الدكتور محمود جبريل، رئيس التحالف الوطني الليبي وأول رئيس حكومة ليبية تنفيذية بعد نجاح الثورة المسلحة والدامية على الدكتاتور معمر القذافي.

اللقاء تم ترتيبه لحساب قناة العاصمة الليبية، وبتنسيق مع سيدة ليبية تعمل في الإعلام كانت تتقن بمهارة الحفاظ على مسافات آمنة مع الجميع، و"الجميع" هنا كان يقاتل بعضه البعض.

وصلنا فرساي قبل تسجيل المقابلة بيوم، وكان الصحفيون الثلاث من الزملاء يمثلون ثلاث صحف عربية لندنية، وكنت أنا من وقع عليه الاختيار ليدير الحوار (رغم عدم خبرتي كمقدم برامج حوارية)، إلا أننا استطعنا الخروج بمقابلة خاصة مع الرجل الذي كان حتى لحظة وفاته مثل الصندوق الأسود لكل أحداث ووقائع الثورة الليبية من ألفها إلى يائها. 

وفي الليلة قبل التسجيل، دعانا الراحل الدكتور جبريل رحمه الله إلى عشاء ودي تحدث فيه بصراحة أكثر بكثير مما تحدث في التسجيل، وهذا طبيعي لرجل سياسي محترف ومتمرس، استطاع بمهارة أن يسجل تمريرات ذكية في المعلومات دون أن يتخلى عن دبلوماسيته، ثم أهدافا معلنة ونظيفة في التسجيل الرسمي للمقابلة. لم يخل الحوار فيها من صراحة ومباشرة وإجابات على أسئلة ذكية وجهها الزملاء.

كثف محمود جبريل وقتها ما يحدث بعبارة بليغة جدا حين قال: ثورات الربيع العربي صنعها المستقبل وسرقها الماضي

قبل الحوار المسجل بيوم، كنت أتجول في المدينة وضواحيها وبوابات قصرها الملكي الشهير بحدائقه الفخمة، أحاول التقاط ما تيسر لي من تلك المدينة الفرنسية الباذخة والتي سجلت أهميتها التاريخية بكونها مقر إقامة العائلات الملكية الفرنسية.

وحين كانت باريس تغلي بالثورة وبرلمانها مغلق والسياسيون الغاضبون يجتمعون في ملعب التنس الملكي، كان لويس السادس عشر وزوجته الأكثر شهرة ماري أنطوانيت في فرساي، ينامون ملء جفونهم عن شوارد الغليان الشعبي في العاصمة، حتى انتهوا إلى المقصلة بعد أن قامت الثورة الفرنسية التي كلفت الفرنسيين آنذاك دماء كثيرة استمرت طويلا.

انتهت جولتي بحديقة الفندق المترف والذي ورث كل هذا البذخ من تلك الفترة الملكية، فتداعت الأفكار التي قاطعها دخول ودي للزميل الراحل علي إبراهيم، نائب رئيس تحرير الشرق الوسط اللندنية والذي رحل عنا أيضا قبل سنوات، وأخبرته وقتها عما يدور بداخلي من تداعيات عن الثورة الفرنسية وكل تلك الدماء التي سفحت من أجل الحرية وكيف انتهت، وسألته عن الربط الممكن بين الثورة الفرنسية والليبية غير موضوع الحرية والثورة على الطغيان.

أجابني علي إبراهيم رحمه الله بكل حكمته المعتقة والمكثفة: ربما كان هناك في الثورة الفرنسية رجل ما مثل محمود جبريل، لم يسمعه أحد، فاستمر الدم أكثر مما يجب.

♦♦♦

في المقابلة التي وجدت بعد بحث طويل على موقع يوتيوب توثيقا لها وقد قسمت على ثلاث حلقات، تحدث الدكتور محمود جبريل رحمه الله بانسيابية المثقف الواعي والسياسي الدبلوماسي الغاضب من كل ما يحدث. كانت الأجواء وقتها، في العام 2014 محمومة جدا في ليبيا، وقد بدأ النزاع المسلح في مرحلة ما بعد الثورة كبدايات لحرب أهلية قادمة في بلد مثخن بالدم والنار.

Medical staff carry a patient infected with the novel coronavirus (Covid-19) in an emergency vehicle at the Saint-Jean train…
ألعاب المؤامرة
من الطبيعي أن ينقسم العالم في أوقات الأزمات إلى فئات متباينة، بل متناقضة، إن لم نقل متناحرة. بعض الناس يسلم قدريا بالكارثة على مبدأ "لا يصيبنا إلا ما كتب الله لنا". بعضهم الآخر يحلل علميا أسباب الكارثة، سواء كانت فعلا إرهابيا أم وباءً انتشر كجائحة وخلف آلاف الضحايا. 

كانت مصر قد انقلبت على حكم تيار الإخوان المسلمين، بكمين ضبطه العسكر بدقة ودهاء، واختطفت الثورة للمرة الثانية في عام 2013، بعد اختطافها الأول من قبل الإخوان المسلمين.

وفي ليبيا، كان تيار الإخوان والإسلام السياسي والسلفيين يتصارعون مع كل الباقي من الناس لاختطاف السلطة.

الدكتور محمود جبريل وقتها كثف ما يحدث بعبارة بليغة جدا حين قال: "ثورات الربيع العربي صنعها المستقبل وسرقها الماضي".

لم يهادن جبريل في كل حديثه ولم يخف غضبه على ما يحدث في ليبيا، وأكاد أقول إنه تنبأ بكثير مما حدث بعد ذلك في ليبيا، لقد رصد الرجل بخبرته بدايات كرة الثلج التي بدأت بالتدحرج ولم يوقفها أحد.

بل وتنبأ بنبوءة استغربتها وقت قالها حين قال إن الشرق الأوسط "يتحول إلى محمية بشرية طبيعية"، اعتبرت حينها أن المصطلح فيه قسوة شديدة، لكن بعد مرور كل هذا الوقت، أجدني أرى النبوءة متحققة في مجمل الشرق الأوسط، وقد تحول إلى محمية فعلا، بأكثر من قوة مسلحة تحاول السيطرة عليه بدعوى حمايته.

لم يهادن جبريل في كل حديثه ولم يخف غضبه على ما يحدث في ليبيا

استطرد المرحوم جبريل في الحوار كثيرا (وكنت محرجا أحيانا كمدير للحوار بإعادة الحوار إلى سكته الليبية)، فتحدث بوعي فلسفي ومعرفي عن التحولات العالمية في عصر تكنولوجيا المعلومات، والنظام العالمي الجديد الذي يتغير جذريا، وما قاله إن تلك الثورة المعرفية وهذا الدفق المعلوماتي صنع حالة تمكين غير مسبوقة للفرد ـ أي فرد ـ بأن يكون قادرا على مواجهة الدولة ـ أي دولة ـ وحده بتقنيات المعرفة التكنولوجية الهائلة.

تنبأ جبريل في استطراد لم يمكن السيطرة عليه في الحوار لمتعة ما يطرح، عن عالم جديد تحكمه ثقافة السلوك الجماعي  (Collective Behavior)، وبتحليل ذكي ربط ذلك بأخطاء الثورات الفادحة التي كان ثمنها الدم دوما.

كان حوارا طويلا ليس من السهل تلخيصه في مقال، استمتعت مرة ثانية بعد كل تلك السنوات بالاستماع إليه من جديد وباهتمام مختلف، وكل ما أجدني أستطيع قوله إن محمود جبريل بوفاته المؤسفة بسبب فيروس كورونا (بعد كل نجاته من الموت قتلا في تاريخ متخم بالأحداث) كان بحد ذاته خسارة فادحة لليبيا والعالم العربي.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.