A picture taken on March 4, 2017 shows a Syrian army T-62 tank at the damaged site of the ancient city of Palmyra in central…
دبابة تابعة للنظام السوري في تدمر

شنت المقاتلات الإسرائيلية، الأسبوع الماضي، هجوما استهدف معسكر إعداد وتدريب خاص بـ "لواء فاطميون" الأفغاني، التابع لـ "الحرس الثوري الإيراني"، بمنطقة التليلة، في تدمر، شرق سوريا. وقالت مواقع المعارضة السورية إن "المعسكر المستهدف يرتبط بالقاعدة الإيرانية المتواجدة بمطار تدمر العسكري، والتي طالتها عملية الاستهداف أيضا".

وقبل استعادة نظام الرئيس السوري بشار الأسد السيطرة على تدمر، وقعت المدينة التاريخية تحت سيطرة برابرة تنظيم "داعش"، الذين دمّروا أجزاء من المدينة الأثرية التي يعود تاريخها إلى زمن ميلاد يسوع المسيح. ويعتقد برابرة "داعش"، وغالبيتهم من السنة العراقيين، أن المواقع الأثرية وأضرحة القديسين والسادة والسلف هي بدع، وأن كل بدعة ضلالة، وأن كل ضلالة في النار، مع العلم أن ضريح الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان قائم قرب بغداد، ويزوره المسلمون السنّة على مدى الألفية المنصرمة، وما الصحوة الإسلامية ضد الضلالة المزعومة إلا خزعبلات حديثة، تنقضّ عليها، ولحسن الحظّ، معظم الحكومات العربية.

هكذا، من بربرية الإسلام السياسي السني المعروف بـ"داعش"، إلى بربرية الإسلام الشيعي المعروف بالحرس الثوري الإيراني وأذرعه مثل "لواء فاطميون" الأفغاني، عانت تدمر وما تزال تعاني من عصر نهاية الحضارة العربية، عصر يسود فيه التخلف بدون حياء ولا خجل، عصر يعتقد فيه بعض السنة أنهم في عصر الجهاد والفتوحات الإسلامية وغزواتها وسبايها، فيما يعتقد بعض الشيعة أنهم يحكمون باسم إمامهم المنتظر.

لم تكن تدمر مسرحا للبربرية في تاريخها، بل هي كانت مسرحا لديمقراطية عربية حققت حياة رغيدة لناسها

مسكينة هي تدمر، ومسكينة هي حضارة العرب والفرس التي آلت إلى البربرية التي وصلت إليها. لم تكن تدمر تعيش في ظل التخلّف الذي تعاني منه اليوم، بل كانت هذه المدينة، ومعها حمص وبعلبك غربا، وإلى جنوبها حوران وبصرى وربة عمون، أي عمّان، حتى بترا فالحجر والعلا وتيماء، شمال الحجاز، كل هذه المدن شكّلت مهد الحضارة العربية المسماة جاهلية.

في جنوب سوريا عثر المنقّبون الفرنسيون على شاهدة قبر امرؤ القيس تصفه ملكا للعرب، وهي مكتوبة باللغة النبطية المتأخرة، قبل أن تتطور هذه إلى العربية. لم يتكلم العرب العربية، بل هم منحوا اسمهم للغة التي صارت معروفة بالعربية، أو عربية القرآن، بعدما راحوا يتحدثون بها قبل الإسلام. عثر الكولونياليون الفرنسيون على الشاهدة، ولحسن حظّ الحضارة العربية سرقوها، فنجت من جنون "داعش" ومن حروب "فاطميون"، وما تزال معروضة في متحف اللوفر في العاصمة الفرنسية.

لم تكن تدمر مسرحا للبربرية في تاريخها، بل هي كانت مسرحا لديمقراطية عربية حققت حياة رغيدة لناسها. يقول المؤرخ العراقي الراحل جواد علي، في موسوعته "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام"، إن تدمر تأثرت "بأصول اليونان والرومان وطرقهم في إدارة الحكم، فكان للمدينة مجلس شيوخ له سلطة سن القوانين والتشريع، وله رئيس وكاتب وجملة أعضاء، ويشرف على السلطة القضائية شيخان وديوان يتألف من عشرة حكام. أما السلطة القضائية، فينظر فيها بعض الوكلاء وغيرهم من العمال".

ويضيف علي أن تدمر كانت عاصمة التجارة بين الإمبراطوريات، وكان للتدمريين محطات تجارية في المناطق التي تتاجر معها على ضفاف الفرات، كما على ضفاف النيل، وحتى في روما نفسها، ما عاد على المدينة وشعبها بثروات طائلة. واستطاع المنقبون التأكد من غنى التدمريين من قماشة الأكفان التي عثروا عليها في النواويس، وهي أكفان مصنوعة من الحرير الفاخر المستورد من الصين، وكان ذلك قبل حوالي ألفي عام.

في قلب ازدهار تدمر وتطور حضارتها كان التسامح. لم يكن عند التدمريين إلها مركزيا ولا دينا مفروضا على الناس، بل آلهة متعددة، وأديان متعددة، بما في ذلك الأديان التوحيدية، التي عاشت في تدمر، وبشّرت فيها، كاليهودية. حتى أن بعض الروايات تعزو بناء المدينة إلى النبي سليمان، ملك اليهود، لكنها قصص لا إثباتات تاريخية. واليهود سكنوا تدمر، مع العرب، وسكنوا مواقع تجارية أخرى، مثل دورا يوروبوس على ضفة الفرات (بالقرب من صالحية دير الزور)، والتي عثر المنقبون فيها على كنيس يهودي.

لم يضطر اليهود للإغارة على تدمر خوفا على حياتهم من البرابرة التي يسكنونها اليوم، بل كانت تدمر العربية قبلة اليهود، الذين وفدوا إليها بحثا عن حياة أفضل.

فليعد العرب إلى السلام والتجارة، بدلا من التصفيق للبطولات الوهمية، والتهليل لتأميم القناة، ولأغاني السد العالي، ولصواريخ سكود على تل أبيب

ما جرى؟ (وهي عبارة تلفظ باللغتين العربية والعبرية بالطريقة نفسها مع تباين في حرف الجيم وتعني الشيء نفسه)؟ وكيف انتهت حضارة العرب؟ وكيف تحوّل بعض العرب من تجّار يعرفون أن مصلحتهم تكمن في العيش في سلام مع كل محيطهم، وأنها تكمن في حكومة منتخبة وتداول على السلطة، إلى ميليشيات وغوغاء؟ كيف تحول العرب من ناس يتربعون على قمة التاريخ، إلى جانب الرومان والحضارات الأخرى، إلى ناس يعيشون إما في مخيمات تدريب الإرهابيين، أو في مخيمات اللجوء؟

هو واقع عربي مرّ وحزين، ولا سبيل للخروج منه بالاستمرار بنفس طرقه. لن تحلّ أزمة إيران ميليشا "الحرس الثوري"، ولن تحلّ أزمة لبنان الميليشيات المستنسخة عن "الحرس الثوري"، أي "حزب الله"، ولن تحلّ مشكلة سوريا المزيد من النسخات الميليشيوية كـ "لواء فاطميون" أو "لواء الباقر"، أو ميليشات الحشد الشيعي العراقية.

لا يذكر التاريخ أن الحروب أدت إلى عيش رغيد، بل إن التاريخ يشي بأنه لطالما ارتبطت الحياة الكريمة بالسلام والتعايش والتجارة، من الفينيقيين، إلى ملكي اليهود داود وسليمان، إلى تدمر والنبط. حتى أن قريش امتهنت التجارة، ورسول المسلمين نفسه كان تاجرا أدار أموال زوجته التاجرة.

فليعد العرب إلى السلام والتجارة، بدلا من التصفيق للبطولات الوهمية، والتهليل لتأميم القناة، ولأغاني السد العالي، ولصواريخ سكود على تل أبيب. كلها بطولات كلامية لم تغن العرب ولم تسمنهم، بل زادت بؤسهم بؤسا، وفقرهم فقرا، وتخلفهم تخلفا.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.