FILE - In this June 14, 2014 file photo, Egyptian women hold banners during a protest against sexual harassment in Cairo, Egypt…
تظاهرة ضد التحرش في مصر في العام 2014

"لو كنت محجبة لما تعرضت للتحرش"؛ "لو ارتديت النقاب لما تعرضت إلى التحرش"؛ "لو لم تبتسمي في وجهه لما تجرأ على التحرش بك". لو… لو…

في مجتمعاتنا، هناك ألف تبرير وتبرير للتحرش والاعتداءات الجنسية. السواد الأعظم من الفتيات والسيدات المصريات تعرضن للتحرش الجسدي أو اللفظي مرات عديدة وبطرق وأساليب مختلفة، وإن اشتكين، تكون "لو" جزء من تبريرات التحرش التي لا تنتهي.

أتذكر كيف عنفتني مدرستي عندما اشتكيت من التحرش في المترو المزدحم. "لو انتظرت وركبت المترو الذي يليه لما حدث هذا"، وبالطبع لم تفوت الفرصة لتشجعني على ارتداء الحجاب "لأحمي نفسي من عيون الشباب".

ذهبت بعدها إلى أمي وسألتها هل تعرضت للتحرش، فقالت لا، كانت هناك معاكسات ولكن بلا تحرش فج" وأضافت "كانت البنات تلبس فساتين قصيرة ومع ذلك لم يجرأ أحد على التعرض إليهن".

على مجتمعاتنا أن تفهم أن التحرش لا علاقة بزي المرأة، بل بتفكير بعض الرجال الذي يرون المرأة كفريسة يمكن اصطيادها بلا لوم أو عقاب من المجتمع

حسدت أمي، وأبناء جيلها، إلا أني أقنعت نفسي أن دعاة الحشمة أصحاب وجهة نظر مقنعة وأن في الاحتشام أمان من غدر المتحرشين.

ظللت على هذا الاعتقاد، حتى زرت الجمهورية الإسلامية الإيرانية.

ككل الزوار ـ النساء ـ لبلاد الملالي، كان عليّ أن ألتزم بالحجاب الإجباري وأغطي شعري وجسدي وألبس بالطو طويل، لا يظهر إلا الوجه والكفين، ككل النساء الإيرانيات. وأي امرأة إيرانية تخالف قانون الزي العام في إيران تتعرض للترهيب وأحيانا السجن.

ظننت بكل سذاجة أنني بأمان في إيران، حتى ذهبت لزيارة مدينة يزد. توجهت إلى مسجد أمير جقماق، الذي يعد تحفة من معالم العمارة والبناء، بطرازه الفريد وشرفته الجميلة التي تطل على قلب المدينة القديمة.

دخلت كغيري من السياح، وكان معظمهم إيرانيون يمضون عطلة نهاية الأسبوع في المدينة القديمة. كان عليّ أن أتسلق سلم أحد منارات المسجد (في غير أوقات الصلاة) لكي أصل إلى الشرفة العليا. وبالفعل بدأت في صعود الدرج اللولبي الضيق. ولكنني توقفت قليلا في المنتصف لضبط حذائي والتقاط أنفاسي. في تلك اللحظة واجهت رجلا كان يتجه إلى أسفل الدرج، وسمعني أتمتم بلغة عربية "بأن الدنيا حر" ثم نظر فلم يجد أحدا صاعدا بعدي. وفي غضون ثوان، دفعني إلى الحائط، وغطى فمي وأغلقه بيده، وبدأ بالتحرش بي، حتى ظننت أنني سوف اغتصب. حاولت دفعه بعيدا، لكنني لم أستطع، فقد كان أطول وأقوى مني.

ما أنقذني هو ظهور ملاكين: صبيان جميلان صعدا الدرج أمام والديهما. فبمجرد أن سمع هذا المتحرش صوت ضحكات هؤلاء الأطفال وهم يصعدون الدرج سويا، حتى توقف وتركني وأسرع بالنزول.

نعم، براءة الطفلين أنقذت شرفي وجسدي، ثم تبعهم والديهم الذين رحبا بي، حين لاحظا توتري، وساعداني على استعادة أنفاسي.

تجربتي في إيران ليست فريدة، فالكثير من النساء تعرضن لنفس التجربة القاسية في مجتمعات أكثر محافظة وانغلاق من المجتمع المصري. فالتحرش لا علاقة له بزي المرأة بل بتفكير بعض الرجال الذين يرون المرأة فريسة يمكن اصطيادها بلا لوم أو عقاب من المجتمع.

في الأيام الأخيرة، عادت قضية التحرش لتصدر النقاش في المجتمع المصري، وذلك بعد أن ألقت الشرطة المصرية القبض على الشاب أحمد بسام ذكي المتهم بالتحرش بعشرات الفتيات.

استطاعت حملة إلكترونية، جمعت شهادات العديد من الفتيات، في جذب الانتباه إلى هذا الشاب الذي أطلق عليه البعض "متحرش الجامعة الأميركية". وسرعان ما اتسع الجدل حوله هذه الاتهامات، ليشمل جميع منصات التواصل الاجتماعي ويتصدر قوائم الموضوعات الأكثر تداولا في مصر على مدى الأيام الأخيرة.

وبالرغم من وقوف الأزهر ودار الافتاء بحزم ضد التحرش وتأكيدهما أن زي المرأة ليس سببا للتحرش، إلا أن البعض، كالباحث الأزهري عبد الله رشدي، ما زال يروج أن "ملابس المرأة التي تعتمد على الإغراء هي من مسببات التحرش".

أعضاء حزب "الحشمة هي الحل" كعبد الله رشدي وأمثاله من المروجين لأسطورة أن زي المرأة هو سبب كل المصائب، ظهر في مصر منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، بالتوازي مع انتشار الدعوى للحجاب وارتداء الزي الإسلامي المحافظ.

ولكن على الرغم من أن معظم النساء المصريات الآن "محجبات محتشمات"، إلا أن التحرش لم يختف من المجتمع بل ازدادت درجة شراسته وإجرامه، وباتت تطال الآن حتى الفتيات اللواتي يرتدين الزي المحافظ. فحت المنقبات يتم التحرش بهن في مصر.

ومع ذلك، يصر مناصرو حزب "الحشمة هي الحل" على رأيهم، بل ويدّعون أن الزي الملفت لبعض النساء يسبب التحرش لأخواتهن من الملتزمات. يعني بالمختصر، لا يكفي أن تتحجب أو تتنقب المرأة، بل يجب أن تتحجب كل النساء، حسب رأي حزب "الحشمة هي الحل" لكي يتوقف التحرش.

نفس الحزب الذي يدعي أن الرجال قوامون على النساء، يصورون الرجال كالحيوانات التي لا تستطيع أن تكبح جماح شهيتها الجنسية. فالعديد من الحيوانات أكثر كياسة ورفقا من أنصاف الرجال الذين يتحرشون بالنساء.

المضحك في الأمر أن حزب "الحشمة هي الحل" يسخرون من المدافعات عن حقوق النساء ويسمونهن "بالنسويات المتشبهات بالرجال" وفي الوقت نفسه يكرهون الأنوثة ويعتبرون من ترتدي أي زينة، حتى بطريقة لائقة وراقية، وكأنها عاهرة تستحق التحرش؛ أو كما نقول في مصر "لو استرجلنا مش عاجبين، ولو اتدلعنا مش عاجبين!".

لا يكفي أن تتحجب أو تتنقب المرأة، بل يجب أن تتحجب كل النساء، حسب رأي حزب "الحشمة هي الحل" لكي يتوقف التحرش

تجربتي في إيران تدحض أفكار "حزب الحشمة هي الحل" فلا الحجاب ولا اللبس المحتشم منعوا عني التحرش، في مجتمع يفرض فيه الاحتشام فرضا على كل نسائه.

الجزء الوحيد المشرق في قصة التحرش الأخيرة في مصر هو كيف أنها قلصت الدعم لمبرري التحرش، فرأينا هاشتاغ على موقع تويتر ضد أراء عبد الله رشدي وأمثاله

على مجتمعاتنا أن تفهم أن التحرش لا علاقة بزي المرأة، بل بتفكير بعض الرجال الذي يرون المرأة كفريسة يمكن اصطيادها بلا لوم أو عقاب من المجتمع. فرض الزي المحتشم، كما يحدث في إيران، لم ولن يعالج التحرش الجنسي، بل سيدفعه إلى الخفاء، ويغطيه بختم أسود سميك يخفي الحرمان والسلوك الضار ويسهل استغلال الضعفاء.

التحرش جريمة موجودة في كل المجتمعات سواء محافظة أو متحررة. السبيل الوحيد للحد منها هو تربية أولادنا على احترام الجنس الآخر والتواصل معه بأسلوب راقي ومحترم، وخلق جو عام يحمي الضحية ويوفر لها الجو الآمن لتتقدم بشكواها بدون أن تتعرض للتنمر أو العقاب.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.