Stateless Arab, known as bidoon, take part in a protest to demand citizenship and other basic rights in Jahra, 50 kms (31 miles…
تظاهرة لعديمي الهوية في الكويت

كان هذا أسبوعا غريبا، صعبا، تغيرت فيه أشياء كثيرة، وتغيرت أنا فيه كثيرا. تغيرت أشياء ما كنت أود لها أن تتغير، وبقيت أشياء تعاند في داخلي كنت أتمنى لها لو أنها تبدلت أو اختفت. كنت كثيرة الأمل وكثيرة الألم، اختفت الآمال وبقيت الآلام، كنت أفضل الرضا وأنفر من الفراق، أصبح الرضا عزيز والفراق ضيف ثقيل، كنت أؤمن بالخير، بالوصل والتواصل، أصبحت أعتقد بالجفاء، بالبعد والمسافة. كنت أعتقد بالقلب المفتوح واليد الممدودة بالمساعدة، أصبحت أؤمن بالعلبة الحديد، تضع قلبك فيها وقاية خير من علاج، تحميه من كلمة تكسره أو سوء ظن يدميه. شيئا ما تغير في روحي هذا الأسبوع، علّه أسبوع منفصل في حياتي، يمر مرور اللئام.

تعلمنا الدنيا القسوة، تدربنا على الفقد والقطيعة وسوء الظن، وكلما اتقد الأمل في قلوبنا بأن هذا عارض ويمر، يلحقه عارض يليه، يضغط موقع الألم وينخر مكان الجرح. تتحالف الآلام الخاصة بالآلام العامة، فتتوه الروح في غربة، غربة وقسوة غير مبررة، لأحداث لا أسباب لها. أغرق في همي، لأنني بشر أناني بتركيبي الجيني، فتأتي اتصالات تذكرني بصغر همومي وعظم أنانيتي وسخافة أحزاني، اتصالات من صغار في عمر الزهور، من خريجين فائقين بنسب تتعدى 90 في المئة غير قادرين على الالتحاق بمؤسسات التعليم العالي لأسباب وأسباب، منها ضيق ذات اليد، ومنها عدم توافر كراسي دراسية، وأقساها انعدام الجنسية والإجراءات المترتبة على هذا "العدم". 

آه من عالمنا الغريب من الخليج إلى المحيط، هويته عشق وأزمة، فما البال بمن لا يملك ورقة أصلا تدلل على هويته؟

يصلك صوت رفيع على التلفون، "ألو" مترددة، خائفة، يليها "أرجوك ساعديني" مترجرجة بالبكاء، ثم نحيب طويل. عادة أصمت أنا بعض الشيء مستمعة للبكاء المتقطع، كأنه "أكابيلا" حفظتها عن ظهر قلب. أحيانا أبكي مع الصغيرة المتصلة همي وهمها، وكأنني أستغل ألمها لأنفس عن نفسي، وأحيانا تجوب نفسي نوبة غضب، فأنتظر فسحة هدوء بين آهات النحيب لأخبر الصغيرة أن هذا ليس وقت ضعف، أن البكاء لا يفيد، أنني لا أود أن أسمع تخاذل وأنني أصر على أن أستشعر الأمل في الصوت والكلمات. أقول بقوة تصل حد القسوة، أطالب بتحمل وصلابة يفوقان بكثير عمر المتصلة وخبرتها وتجربتها، لكنني أصر، أستمر، أعمق صوتي وأهبط به لأثقل طبقاته لأوحي للمستمعة الصغيرة بجديتي وصرامتي، ألزمها بالهدوء، أفرض عليها التفكير العملي، الدنيا لن تشفق، لن تنتظر، ليس لدينا وقت للشعور بالشفقة على الذات. 

كلما زاد الألم في صوتها، كلما تعمق صوتي الذي أطعمه عمدا بكل ما لدي من صلابة وإصرار. تنتهي المكالمة وقد تماسكت هي؛ رنة بهجة فتية تلوح في صوتها تذكرني برنة صوت ابنتي التي لا تعرف من مشاق الحياة شيئا، تنتهي المكالمة وقد التفت شعرات طويلة سوداء على أصابعي، لا أدرى إن كانت قد تشابكت وأصابعي بهدوء بعد أن مررت بكف يدي في شعري أم أنني انتزعتها انتزاعا أثناء المكالمة. 

أسمح لنفسي بالنحيب بعد كل مكالمة من هذه المكالمات، أبكي ألم الصغيرة وأملها، أبكي صرامتي التي نخرت روحي وأنا أدعيها، وأبكي قلة حيلتي. تتداخل الآلام، فلا أعود أعرف ما الذي يعرقل دماء شرايين قلبي في التو واللحظة، ألمي الخاص، مكالمة الصغيرة، أم ما عاد هناك فرق؟

في عمري وأنا أقبل حثيثا على الخمسين، ما عادت قسوة الدنيا مستغربة، وربما غير مهمة. متوقع أن تقسو الدنيا وأن تتراكم الآلام وأن تنفر وينفر منك آخرون، أليس هذا هو قانون الحياة؟ أليس امتداد العمر الذي نتمناه ونسعى له بكافة الطرق ما هو سوى مخزن لتراكم الأحداث والمواقف الموجعة والكلمات التي تصيب كما السهام في القلب؟ 

ولكن، ماذا عن هؤلاء الصغار، للتو يبدؤون الحياة، للتو يترجون الأمل، لا يزالون يعتقدون برحمة الأقدار وعدالة الدنيا، لا يزالون يرون هذه الدرجة من اللون الوردي الذي ما عادت أعيننا نحن الكبار تلتقطها؟ كيف تواسي هؤلاء الفائرين بالآمال والأحلام والصور والتصورات والخطط والمخططات؟ كيف تريهم قفا الصورة، حيث الوردي يصبح رماديا، والشفافية تنقلب إلى عتمة داكنة؟ هل يحق لك أن تفعل أصلا؟ كيف تحولهم من صغار منطلقين بأحلام الثامنة عشرة إلى عجائز متسلحين بالقوة والتجربة وصلابة الروح لتجاوز الأزمة التي لا يمكن تجاوزها؟ كيف تصارحهم بأن زمن الأزمة الممتدة في الواقع للتو قد بدأ، من الدراسة إلى التخرج إلى البحث عن وظيفة إلى اليأس طلبا للهجرة؟ 

أسمح لنفسي بالنحيب بعد كل مكالمة من هذه المكالمات، أبكي ألم الصغيرة وأملها، أبكي صرامتي التي نخرت روحي وأنا أدعيها، وأبكي قلة حيلتي

آه من عالمنا الغريب من الخليج إلى المحيط، هويته عشق وأزمة، فما البال بمن لا يملك ورقة أصلا تدلل على هويته؟ كيف هي روح ونفس وحياة هؤلاء، في كل عالمنا العربي، الواقعين في الفتحات المظلمة من "نسيج" المجتمع (كم أكره كلمة نسيج هذه)، الواقفين بالكاد متوازنين على فوهة الهاوية، الغرباء في بلدانهم، المنتمين إلى غرباتهم أبد الدهر؟

لا أعرف كيف أكتب غير ما أفكر وما أشعر، ولا أفكر الليلة سوى في آلام الأسابيع الماضية، آلام شخصية، آلام عامة، وجع كلمة، ألم اتصال، بكاء صغيرة، رسالة صغير، بقايا كل الكلام القاس، ذيول كل الآلام المستمرة والآمال المنحورة، كل شيء اختلط ببعضه، كل البقايا تكومت صانعة كرة منخورة صلدة أستشعرها تربض في قفصي الصدري، تسد عليّ منافذ المشاعر، فلا يصلني منها سوى الغضب والألم والحزن. 

ربما تنتهي هذه الأسابيع، وتعود أشعة السعادة تخترق الستائر الداكنة المسدلة على قلبي هذه الأيام، لكن، هل ستجد أشعة الأمل والسعادة طريقها لقلوب هؤلاء الصغار، عديمي الهوية، عديمي الأمل، يحيون بالألم من الخليج إلى المحيط؟

FILE - A U.S. Marine watches a statue of Saddam Hussein being toppled in Firdaus Square in downtown Baghdad on April 9, 2003…
"حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة صدام اسمك هز أميركا".

يصادف هذا الشهر بدء عامي العشرين في الولايات المتحدة، وهي بلاد انتقلت إليها للمساهمة في نشر الحرية والديمقراطية في دنيا العرب. لم يأت التغيير العربي الذي كنت أحلم به، فاتخذت من أميركا وطنا لي، وأكرمتني وأكرمتها، وأحببتها، وصرتّ أحدّث بنعمتها. لكن المقال هذا ليس عن الولايات المتحدة، بل عن خيبات الأمل العربية التي عشتها مرارا وتكرارا، والتي أثرت بي ولم أؤثر بها، والتي أفقدتني كل الأمل بالتغيير والتطوير والمستقبل في المشرق العربي وعراقه.

هذه الرحلة بدأت مع سنوات نضالي الطلابي في صفوف اليسار اللبناني. كنا تعتقد أن الطغاة هم أزلام الإمبريالية، زرعتهم بيننا لقمعنا وحماية إسرائيل، وأن العراقيين أكثر الشعوب العربية المتعلمة والمثقفة، شعب المليون مهندس. كنا نردد أن الأسد يحتل لبنان بمباركة أميركية وإسرائيلية، وكنا نصرخ "أسد أسد في لبنان، أرنب أرنب في الجولان".

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. انقلبت أميركا على إمبرياليتها، وأطاحت بصدام، وفتحت الباب للعراقيين للبدء من نقطة الصفر لبناء دولة حرة وديمقراطية. كنت أول من آمن ببناء العراق الجديد. زرت بغداد، وحوّلت منزل العائلة إلى مكتب مجلة بالإنكليزية اسميناها "بغداد بوليتين". بعد أشهر، قتل إرهابيون أحد صحافيينا الأميركيين، فأقفلنا وهربنا. ثم عرضت علي محطة أميركية ناطقة بالعربية يموّلها الكونغرس فرصة عمل في واشنطن. مهمتي كانت المساهمة في بناء القناة العراقية لهذه المحطة. كان مقررا تسمية القناة "تلفزيون الحرية"، لكن الرأي استقرّ على اسم مرادف، فكانت "الحرة".

حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة "صدام اسمك هز أميركا". على عكس ما كنت أعتقد وأقراني العرب، الأميركيون لم يسمعوا، ولم يأبهوا، بالعراق، ولا بإيران، ولا بباقي منطقة المآسي المسماة شرقا أوسطا. المعنيون بالسياسة الخارجية الأميركية هم حفنة من المسؤولين والخبراء وكبار الضبّاط. 

لم يكد يمرّ عامين على انتقالي إلى واشنطن حتى قتل "حزب الله" رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري، حسب الحكم الصادر عن محكمة الأمم المتحدة. أصدقائي في لبنان ممن اتهموني بالخيانة والانتقال إلى صفوف الإمبريالية الأميركية في حرب العراق تحوّلوا وصاروا مثلي، يرون في الولايات المتحدة مخلصا من "القضية" و"المقاومة" و"الممانعة" و"التحرير" التي صارت تلتهمهم. نفس مشكلة العراق، كذلك في لبنان، كيف ينجب شعب قبلي طائفي لا يفهم معنى الحرية أو الديمراطية دولة ديمقراطية؟ 

غرقت "انتفاضة الاستقلال" اللبنانية في بحيرة من الدماء، من الحريري إلى العزيز سمير قصير وبعدهما زهاء 20 سياسيا واعلاميا وضابطا كان خاتمتهم الصديق لقمان سليم. أما القاتل، فلبناني يعمي بصيرته فكر قروسطوي وتعصب مذهبي وعشائري، ويقضي على اداركه أن المواطنية والديمقراطية في مصلحته، وأن مصائبه ومصائب لبنان سببها غياب الحرية والديمقراطية، وأنه لا يمكن للإمبريالية، ولا للسفارات الغربية، ولا لإسرائيل، أن تهتم بمصير ومستقبل لبنان وخلاصه أكثر من اللبنانيين أنفسهم .

في العام 2006، هاجم "حزب الله" إسرائيل، فاندلعت حرب، ووقف عدد كبير من اللبنانيين ضد ميليشيا "حزب الله"، ورحنا نتظاهر أمام البيت الأبيض، فما كان إلا من السوريين الأميركيين أن عيبونا واتهمونا بالخيانة، وحملوا أعلام "حزب الله" وصور نصرالله. السوريون أنفسهم عادوا فأدركوا أن نصرالله، وبشار الأسد، وأصحاب القضية لا يقاتلون لحمايتهم، بل للبقاء متسلطين عليهم. بعد اندلاع ثورة سوريا في 2011، انقلب هؤلاء السوريون أنفسهم، مثل العراقيين واللبنانيين قبلهم، من قوميين عرب صناديد الى أعداء العروبة ومؤيدي الإمبريالية والغرب والديمقراطية.

وحدها غالبية من الفلسطينيين لم تدرك أن كل أرباب القضية والتحرير والمقاومة هم مقاولون منافقون. هللت غالبية من الفلسطينية لصدام، ولاتزال تهلل للأسد وقاسم سليماني وعلي خامنئي. لم يدرك الفلسطينيون ما فهمناه أنا وأصدقاء من العراقيين واللبنانيين والسوريين: إسرائيل شمّاعة يعلّق عليها العرب فشلهم في إقامة دول. لا توجد مؤسسات عربية من أي نوع أو حجم قادرة على العمل بشفافية أو يمكن الإشارة اليها كنموذج عمل مؤسساتي. كل نقيب في لبنان أورث النقابة لولده، وكل رئيس ناد رياضي فعل الشيء نفسه. حتى المفتي الجعفري الممتاز في لبنان أورث منصبه إلى ابنه. ثم يقولون لك إسرائيل وسفارة أميركا والإمبريالية.

قبل ستة أعوام، بعد مرور أعوام على استقالتي من الحرة وانقطاعي عنها، تسلّم رئاسة القناة أميركي مثقف من الطراز الرفيع، فقلب المحطة رأسا على عقب، وطوّر موقعها على الإنترنت، وقدم الفرصة لكتّاب مثلي للنشر أسبوعيا. 

على مدى الأسابيع الـ 290 الماضية، لم أنقطع عن الكتابة أو النشر ولا أسبوع. مقالاتي تمحورت حول شرح معنى الحرية والديمقراطية وأهميتهما، وأهمية أفكار الحداثة وعصر الأنوار الأوروبي، والإضاءة على التاريخ الغني للعرب، والتشديد على ضرورة التوصل لسلام عربي فوري وغير مشروط مع إسرائيل. ناقشت في التاريخ، والأفلام العربية والمسلسلات، والسياسة والاجتماع. رثيت أصدقاء اغتالتهم أيادي الظلام في بيروت وبغداد. 

بعد 20 عاما على انخراطي في محاولة نشر الحرية والديمقراطية والسلام، أطوي اليوم صفحة تجربتي مع الحرة، في وقت تضاعف يأسي وتعاظم احباطي، وتراجعت كل زاوية في العالم العربي على كل صعيد وبكل مقياس، باستثناء الإمارات والسعودية والبحرين. حتى أن بعض الدول العربية انهارت بالكامل وصارت أشباه دول، بل دول فاشلة ومارقة يعيش ناسها من قلّة الموت.

لن تأتي القوة الأميركية مجددا لنشر الحرية أو الديمقراطية بين العرب. تجربتها بعد حرب العراق ومع الربيع العربي علّمتها أن لا فائدة من محاولة تحسين وضع شعب تغرق غالبيته في نظريات المؤامرة، وتتمسك بتقاليد قرسطوية تمنع تطور ثقافة الديمقراطية لبناء دولة حديثة عليها.

اليوم، أترجّل عن مسرح الحرة. سأواصل سعيي لنشر مبادئ الحرية والديمقراطية عبر مواقع أخرى، في مقالات ودراسات وتغريدات وغيرها، لكن رهاني على التغيير انتهى. المحاولات ستتواصل حتى لو بلا جدوى، عسى ولعل أن يسمع الصوت من يسمعه.