في ديسمبر 2016، قدم المنتدى السنوي المرموق لمعهد بروكينغز، والمعروف باسم منتدى سابان، جون كيري كمتحدث مميز. استغل وزير الخارجية المنتهية ولايته هذه المناسبة ليوضح وجهات نظره حول آفاق السلام في الشرق الأوسط، ومركزية الفلسطينيين في هذا المسعى. وقال كيري لجمهوره "لن يكون هناك سلام منفصل ومتقدم مع العالم العربي من دون العملية الفلسطينية والسلام الفلسطيني"، وأضاف على "الجميع بحاجة إلى فهم ذلك. هذه حقيقة صعبة".
لنتقدم بالتاريخ سريعا لمدة ثلاث سنوات ونصف، سيثبت أن الرجل الذي خدم سابقا كأكبر دبلوماسي أميركي مخطئ تماما. إن توقيع اتفاقيات أبراهام في الأسبوع الماضي، مثلما أصبحت اتفاقيات السلام والتطبيع بين إسرائيل والإمارات والبحرين معروفة، يمثل تحولا هائلا في سياسة الشرق الأوسط. وهذا أيضا رفض مذهل للتفكير التقليدي حول المنطقة الذي اعتنقه كيري والعديد من الآخرين منذ فترة طويلة.
في الواقع، منذ توقيع اتفاقيات أوسلو في عام 1993، بات الغرب ينظر إلى الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني على أنه المحور المركزي لسياسات الشرق الأوسط. لأكثر من ربع قرن، استحوذت القضية على قدر كبير من الاهتمام داخل واشنطن وفي عواصم أوروبية متنوعة. وأنتجت هذه القضية عددا لا يحصى من المؤتمرات الدولية، ومبادرات السلام المتكررة والعديد من المبادرات الدبلوماسية تجاوز بعضها الاهتمامات الإقليمية الملحة الأخرى في هذه العملية. كان في جوهرها فكرة واحدة: إن إسرائيل بحاجة إلى اتباع استراتيجية "من الداخل إلى الخارج"، وجعل السلام مع الفلسطينيين شرطا أساسيا لأي نوع من الاعتراف أو العلاقات الطبيعية مع العالم العربي.
لا ينبغي النظر إلى أي من هذا على أنه تخلي عن القضية الفلسطينية، كما زعم البعض
لكن خلال العقد الماضي، انقلبت هذه المعادلة رأسا على عقب. اقتربت إسرائيل ودول الخليج العربية تدريجيا، مدفوعة بالمخاوف المشتركة بشأن إيران الصاعدة المتعطشة للأسلحة النووية. لكن هذه الاتصالات المبكرة أصبحت تدريجيا أكثر من ذلك بكثير: تقارب إقليمي يشمل كل شيء من السياسة إلى التجارة. كانت هذه العلاقات، التي أجريت بعيدا عن أعين الجمهور إلى حد كبير، واسعة وحيوية ومستمرة؛ والأكثر لفتا للنظر لأنها استمرت على الرغم من أن الحوار الإسرائيلي الفلسطيني ظل محتضرا لمدة عقدين. كان حفل البيت الأبيض الأسبوع الماضي بمثابة تتويج علني لهذه العملية الضمنية في السابق.
ومع ذلك، لا ينبغي النظر إلى أي من هذا على أنه تخلي عن القضية الفلسطينية، كما زعم البعض. وفي تناقض مع ذلك، بذل وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد آل نهيان، في تصريحاته الرسمية يوم الثلاثاء، جهودا كبيرة للتأكيد على التزام حكومته المستمر بالازدهار الفلسطيني. كذلك فعلت إدارة ترامب الشيء نفسه؛ تتضمن "صفقة القرن"، التي تم الكشف عنها في يناير الماضي، تعهدا باستثمارات تجارية بقيمة 50 مليار دولار في الضفة الغربية وقطاع غزة ـ أي ما يعادل أكثر من ثلاثة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي السنوي الحالي للأراضي الفلسطينية.
السلطة الفلسطينية بحاجة إلى الانضمام إلى الموجة السياسية الجديدة، أو التخلف عن الركب
لكن لا يبدو أن هذه الأمور موضع تقدير من القيادة الفلسطينية التي اعتبرت الاتفاقات الجديدة بأنها خيانة، ووعدت بقطع العلاقات الدبلوماسية مع أي دولة عربية تطبّع العلاقات مع إسرائيل. وكما لاحظ الخبراء، فإن هذا الموقف وضع الفلسطينيين في "مسار تصادمي" مع بقية العالم العربي. وبالفعل، ذهب نايف الحجرف، الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي، إلى حد المطالبة رسميا باعتذار من السلطة الفلسطينية عن سلوكها وخطابها.
واستنكر الأمين العام "الأكاذيب التي تشكك في الموقف التاريخي لدول الخليج الداعمة لحقوق الفلسطينيين"، داعيا القادة الفلسطينيين المسؤولين الذين شاركوا في ذلك الاجتماع، برئاسة الرئيس محمود عباس، إلى "الاعتذار عن هذه الانتهاكات والتصريحات الاستفزازية والكاذبة"، التي "يتعارض مع واقع العلاقات بين دول مجلس التعاون والشعب الفلسطيني الشقيق"، كما قال مجلس التعاون الخليجي في بيان رسمي.
يتحدث هذا الموقف عن الكثير من السياسات التي تتكشف في المنطقة، حيث يفكر عدد متزايد من الدول الآن في التطبيع مع إسرائيل، وعدد أقل وأقل بات على استعداد لإبقاء مصالحها الوطنية أسيرة القضية الفلسطينية. يجب أن تكون الرسالة الناتجة واضحة تماما: السلطة الفلسطينية بحاجة إلى الانضمام إلى الموجة السياسية الجديدة، أو التخلف عن الركب.