FILE - In this Tuesday, Sept. 15, 2020 file photo, Israeli Prime Minister Benjamin Netanyahu, left, U.S. President Donald Trump…
خلال توقيع اتفاقية أبراهام في البيت البيت

في ديسمبر 2016، قدم المنتدى السنوي المرموق لمعهد بروكينغز، والمعروف باسم منتدى سابان، جون كيري كمتحدث مميز. استغل وزير الخارجية المنتهية ولايته هذه المناسبة ليوضح وجهات نظره حول آفاق السلام في الشرق الأوسط، ومركزية الفلسطينيين في هذا المسعى. وقال كيري لجمهوره "لن يكون هناك سلام منفصل ومتقدم مع العالم العربي من دون العملية الفلسطينية والسلام الفلسطيني"، وأضاف على "الجميع بحاجة إلى فهم ذلك. هذه حقيقة صعبة".

لنتقدم بالتاريخ سريعا لمدة ثلاث سنوات ونصف، سيثبت أن الرجل الذي خدم سابقا كأكبر دبلوماسي أميركي مخطئ تماما. إن توقيع اتفاقيات أبراهام في الأسبوع الماضي، مثلما أصبحت اتفاقيات السلام والتطبيع بين إسرائيل والإمارات والبحرين معروفة، يمثل تحولا هائلا في سياسة الشرق الأوسط. وهذا أيضا رفض مذهل للتفكير التقليدي حول المنطقة الذي اعتنقه كيري والعديد من الآخرين منذ فترة طويلة.

في الواقع، منذ توقيع اتفاقيات أوسلو في عام 1993، بات الغرب ينظر إلى الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني على أنه المحور المركزي لسياسات الشرق الأوسط. لأكثر من ربع قرن، استحوذت القضية على قدر كبير من الاهتمام داخل واشنطن وفي عواصم أوروبية متنوعة. وأنتجت هذه القضية عددا لا يحصى من المؤتمرات الدولية، ومبادرات السلام المتكررة والعديد من المبادرات الدبلوماسية تجاوز بعضها الاهتمامات الإقليمية الملحة الأخرى في هذه العملية. كان في جوهرها فكرة واحدة: إن إسرائيل بحاجة إلى اتباع استراتيجية "من الداخل إلى الخارج"، وجعل السلام مع الفلسطينيين شرطا أساسيا لأي نوع من الاعتراف أو العلاقات الطبيعية مع العالم العربي.

لا ينبغي النظر إلى أي من هذا على أنه تخلي عن القضية الفلسطينية، كما زعم البعض

لكن خلال العقد الماضي، انقلبت هذه المعادلة رأسا على عقب. اقتربت إسرائيل ودول الخليج العربية تدريجيا، مدفوعة بالمخاوف المشتركة بشأن إيران الصاعدة المتعطشة للأسلحة النووية. لكن هذه الاتصالات المبكرة أصبحت تدريجيا أكثر من ذلك بكثير: تقارب إقليمي يشمل كل شيء من السياسة إلى التجارة. كانت هذه العلاقات، التي أجريت بعيدا عن أعين الجمهور إلى حد كبير، واسعة وحيوية ومستمرة؛ والأكثر لفتا للنظر لأنها استمرت على الرغم من أن الحوار الإسرائيلي الفلسطيني ظل محتضرا لمدة عقدين. كان حفل البيت الأبيض الأسبوع الماضي بمثابة تتويج علني لهذه العملية الضمنية في السابق.

ومع ذلك، لا ينبغي النظر إلى أي من هذا على أنه تخلي عن القضية الفلسطينية، كما زعم البعض. وفي تناقض مع ذلك، بذل وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد آل نهيان، في تصريحاته الرسمية يوم الثلاثاء، جهودا كبيرة للتأكيد على التزام حكومته المستمر بالازدهار الفلسطيني. كذلك فعلت إدارة ترامب الشيء نفسه؛ تتضمن "صفقة القرن"، التي تم الكشف عنها في يناير الماضي، تعهدا باستثمارات تجارية بقيمة 50 مليار دولار في الضفة الغربية وقطاع غزة ـ أي ما يعادل أكثر من ثلاثة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي السنوي الحالي للأراضي الفلسطينية.

السلطة الفلسطينية بحاجة إلى الانضمام إلى الموجة السياسية الجديدة، أو التخلف عن الركب

لكن لا يبدو أن هذه الأمور موضع تقدير من القيادة الفلسطينية التي اعتبرت الاتفاقات الجديدة بأنها خيانة، ووعدت بقطع العلاقات الدبلوماسية مع أي دولة عربية تطبّع العلاقات مع إسرائيل. وكما لاحظ الخبراء، فإن هذا الموقف وضع الفلسطينيين في "مسار تصادمي" مع بقية العالم العربي. وبالفعل، ذهب نايف الحجرف، الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي، إلى حد المطالبة رسميا باعتذار من السلطة الفلسطينية عن سلوكها وخطابها.

واستنكر الأمين العام "الأكاذيب التي تشكك في الموقف التاريخي لدول الخليج الداعمة لحقوق الفلسطينيين"، داعيا القادة الفلسطينيين المسؤولين الذين شاركوا في ذلك الاجتماع، برئاسة الرئيس محمود عباس، إلى "الاعتذار عن هذه الانتهاكات والتصريحات الاستفزازية والكاذبة"، التي "يتعارض مع واقع العلاقات بين دول مجلس التعاون والشعب الفلسطيني الشقيق"، كما قال مجلس التعاون الخليجي في بيان رسمي.

يتحدث هذا الموقف عن الكثير من السياسات التي تتكشف في المنطقة، حيث يفكر عدد متزايد من الدول الآن في التطبيع مع إسرائيل، وعدد أقل وأقل بات على استعداد لإبقاء مصالحها الوطنية أسيرة القضية الفلسطينية. يجب أن تكون الرسالة الناتجة واضحة تماما: السلطة الفلسطينية بحاجة إلى الانضمام إلى الموجة السياسية الجديدة، أو التخلف عن الركب.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.