(FILES) In this file photo taken on February 20, 2020 a member of the US Airforce looks on near a Patriot missile battery at…

قرار الجيش الأميركي سحب أنظمة صواريخ باتريوت وعشرات من الجنود في المملكة العربية السعودية هذا الأسبوع يتماشى قلبا وقالبا مع عقيدة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الخارجية وغير المبنية على تحالفات أو التزامات دائمة بل على مصالح تتضارب فيها الأهداف الأمنية بتلك الاقتصادية.

وزارة الدفاع الأميركية أكدت أن هناك تغييرات روتينية تواكب الوجود الأميركي في الخليج بعد أن كشفت "وول ستريت جورنال" الخميس قيام واشنطن بسحب أربع بطاريات صواريخ باتريوت ويعض الطائرات التي نشرت في سبتمبر الفائت إثر الهجوم على المنشآت النفطية السعودية. 

التغييرات بحسب الصحيفة ستطال أيضا خفض الوجود الأميركي البحري في الخليج "ولينهي الإجراءات العسكرية المتزايدة لردع إيران"، لأن طهران، بحسب المسؤولين، "لم تعد تشكل تهديدا آنيا للمصالح الاستراتيجية الأميركية".

دونالد ترامب كان صريحا أكثر من قيادته العسكرية بتفسير التعديلات وقال الخميس "هناك دولا غنية نحميها مقابل لا شيء، وإذا كنا نقدم الحماية لبعض الدول فعليها احترامنا".

حرب النفط وانخفاض سعر الخام لأرقام قياسية وضعت ترامب في صف روسيا وفلاديمير بوتين في مواجهة السعودية

الاحترام الذي يقصده ترامب هنا لا علاقة له بالمعاهدات والتفاهمات الدفاعية بين السعودية وأميركا بل هو يرتبط بأسعار النفط وما طلبته واشنطن من المملكة ولم تحصل عليه. فاتصال 2 أبريل بين ترامب وولي العهد السعودي محمد بن سلمان، بحسب وكالة رويترز، حمل تهديدا من الرئيس الأميركي بقطع الدعم عن السعودية إذا لم تتوقف عن إغراق الأسواق. لذلك هناك ثلاث معطيات بارزة تحيط قرار ترامب والعلاقة الدفاعية بين السعودية وأميركا:

1 ـ خفض الحضور العسكري الأميركي في السعودية لا يرتبط بمستوى التهديد الإيراني الذي تزايد في الأسابيع الأخيرة وبعد تأكيد البحرية الأميركية أن 11 زورقا إيرانيا تحرشوا بسفنها في مياه الخليج في منتصف أبريل. وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو أكد منذ أيام أن التهديد الايراني مستمر، مما يعني أن خطوة ترامب ترتبط بأسباب أخرى.

2 ـ حرب النفط وانخفاض سعر الخام لأرقام قياسية وضعت ترامب في صف روسيا وفلاديمير بوتين في مواجهة السعودية. تهاوي الأسعار وعدم تعهد الرياض بكبح الإنتاج، يغرق اليوم الشركات الأميركية وأدى إلى إعادة النظر في الوجود العسكري الأميركي لحماية منشآت نفطية سعودية لا تحمي الأهداف الاقتصادية الأميركية.

لذلك فإن استخدام المسؤولين الأميركيين عبارة عدم تشكيل طهران "تهديدا آنيا للمصالح الاستراتيجية الأميركية" هو بسبب تغير هذه المصالح وليس تغير التهديد. فلم يعد لدى واشنطن مصلحة اليوم بحماية منشآت سعودية لتفادي ارتفاع في أسعار النفط في وقت يسعى ترامب لرفع هذه الأسعار.

3 ـ سحب بطاريات الباتريوت هو خطوة رمزية ورسالة للرياض بأن ترامب جدي في تهديده بقطع الدعم العسكري وأن خطوات أكبر وأكثر جدية قد تلي. فالباتريوت وسحب عشرات الجنود لن يقلب ميزان القوى الدفاع في الخليج إنما قد يدفع الرياض إلى إعادة الحسابات في حال أقدم ترامب على خطوات أمنية أكبر.

إيران هي المستفيدة الأكبر من التراجع الأميركي والذي ينافي سياسة "الضغوط القصوى" عليها

قرار ترامب بسحب الباتريوت من السعودية يعزز عقيدته الخارجية بأن هناك ثمنا اقتصاديا ومقايضة بين المصالح التجارية والأمنية. هذه المقايضة كانت حاضرة في العام الأول من انتخاب ترامب وزيارته السعودية كأول محطة خارجية له في مايو 2017. قرار الزيارة تم يومها بعد التأكد من إبرام تفاهمات واتفاقات اقتصادية ودفاعية بمليارات الدولارات بين الجانبين.

خفض الوجود الأميركي العسكري في السعودية يقرب أيضا وجهات النظر الروسية والأميركية حول السياسات النفطية، ويعيد رسم أولويات السياسة الخارجية الأميركية بعيدا عن الشرق الأوسط وباتجاه آسيا وكبح الصين التي تشكل تهديدا أكبر بكثير من إيران على قوة ونفوذ واشنطن.

إيران هي المستفيدة الأكبر من التراجع الأميركي والذي ينافي سياسة "الضغوط القصوى" عليها ويضع المنشآت النفطية في الخليج في مدار صواريخها من دون أي حلول في الأفق تتعاطى مع تهديد الصواريخ الإيرانية أو التوافق على منظومة إقليمية تحمي هذه الدول من دون وجود ضرورة للباتريوت.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.