A picture released 27 October 1938 during the British Mandate in Palestine shows Palestinian Arabs watched by a policeman in a…
فلسطينيون في شوارع الخليل خلال إضراب عام في فترة ثورة العام 1936

مرّت الأسبوع الماضي الذكرى 72 لإعلان دولة إسرائيل، وهي نفس المناسبة التي يسمّيها الفلسطينيون "النكبة". الرواية بين الجانبين متنازع على كل تفاصيلها. يقول الإسرائيليون إنها أرض ممالكهم المتعاقبة، التي اندثرت آخرها في 136 ميلادية، فيما ينفي الفلسطينيون أي وجود لممالك إسرائيل، ويقولون إنها حتى لو وجدت، لا يعطي وجودها الحق للإسرائيليين بإقامة دولتهم بسبب الانقطاع الزمني الذي غاب خلاله الإسرائيليون عن الأرض. ويضيف الفلسطينيون أنهم كانوا يسكنون ويمتلكون مساحات واسعة من الأرض التي قامت عليها دولة إسرائيل، وأن هذا يعني أن الحق للفلسطينيين في إقامة دولتهم بدلا من الإسرائيليين.

والولايات العثمانية ورثتها قوّتان أوروبيتان، هي بريطانيا وفرنسا، وكانتا تتصارعان فيما بينهما على النفوذ، وأعادتا رسم حدود الولايات وفقا لعاملين: الأول كان تحالف بريطانيا مع الغالبية السنية المسلمة التي كان وجهاؤها قادة في زمن العثمانيين، وهو ما دفع الفرنسيين لتشكيل تحالف مناوئ من الأقليات من المسيحيين والشيعة والعلويين والدروز. 

هكذا أقامت فرنسا خمس دول في المشرق، وحرصت على توزيع الغالبية السنية عليها حتى تتحول أقلية في معظمها، فصار لبنان دولة الغالبية المسيحية والشيعية في وجه أقلية سنية، وشكّل العلويون والإسماعيليون والمسيحيون والكرد غالبية بسيطة في دولة اللاذقية، ومثلهم كان الدروز في جبل العرب. أما الدولتان ذات الغالبية السنية تحت الانتداب الفرنسي، أي دمشق وحلب، فكانتا معزولتين بلا منافذ بحرية ولا حظوظ اقتصادية.

لم تطالب غالبية المسلمين والمسيحيين بإقامة دولة فلسطين المستقلة مع زوال الانتداب، بل هم أرادوا الانضمام إلى دولة عربية أو إسلامية

العامل الثاني في رسم دول المشرق العربي والعراق كان خطوط النفط. سعت بريطانيا لتأمين منطقة انتداب متواصلة لتمرير أنابيب نفط إيران والبصرة إلى سواحل المتوسط، واعتقدت فرنسا أنه يمكنها تمرير نفط كركوك إلى اللاذقية أو طرابلس. 

وفي الحالات التي لم ترتبط بعاملي التحالفات المذهبية أو النفط، لم تكترث بريطانيا أو فرنسا كثيرا لحق تقرير المصير. هكذا، انتزعت تركيا بالقوة لواء إسكندرون ذات الغالبية العربية، الذي أسماه العرب اللواء السليب وهو بمساحة الضفة الغربية، وتباكوا عليه لعقود، قبل أن يتنازل عنه رئيس سوريا الراحل حافظ الأسد لتركيا بالتزامن مع تسليم الأسد أنقرة زعيم الانفصاليين الكرد عبدالله أوجلان. ولم يكترث البريطانيون ولا الفرنسيون لحق الكرد في تقريرهم مصيرهم.

في فلسطين، رسمت بريطانيا دولة لا سابق تاريخي لها، فإسرائيل التاريخية قامت في حوض الأردن على ضفتيه، وبالكاد لامست المتوسط، ولم تتعد جنوب القدس بكثير. ربما أرادت لندن مراعاة حليفها الهاشمي بإعطائه ضفة من الأردن حسب حدود سنجق حوران العثماني، وإلا كان الأردن ليكون قطعة صحراء قاحلة. لكن بريطانيا لم تراع الترسيم العثماني لولاية عكّا، والتي غالبا ما أفلتت منها غزة لمصلحة المصريين، ولم تكن القدس فيها.

رفضت بعض شعوب المشرق والعراق تقرير مصيرها حسبما رسمه الأوروبيون. الشيعة أشعلوا ثورة الفرات الأوسط في العراق، والدروز أشعلوا ثورة في سوريا، والعلويون تخلّوا عن دولتهم بعد فترة، واندمجت أربعة دول لتنتج سوريا عاصمتها دمشق، وبقي شيعة البقاع اللبناني يرفضون لبنانيتهم ويوقعون عرائض للانضمام لحكومة دمشق حتى الستينيات. حتى المسيحيون في لبنان انقسموا بين مؤيدي لبنان الكبير، الفرنسي، والمطالبين بلبنان الصغير، أي المتصرفية العثمانية.

كيف تصرفت غالبية المسلمين، ومعهم المسيحيين، ممن وجدوا أنفسهم في فلسطين الانتداب؟ إقطاعيون منهم باعوا أراضيهم للوكالة الصهيونية وانتقلوا للعيش في لبنان. جزء آخر طالب بالانضمام لدولة عربية كان الأمير فيصل أقام حكومة باسمها لفترة وجيزة في دمشق وتحولت إلى "حلم عربي". قسم من الفلسطينيين انضم للتيار العثماني الذي أراد احياء الخلافة الاسلامية، وهو القسم الذي قاده مثقفون من أمثال اللبناني رشيد رضا، أستاذ حسن البنا المصري مؤسس "الإخوان المسلمين"، والسوري عزالدين القسام، الذي حرّض على ثورة مسلحة ضد البريطانيين في حيفا وكان مقتله شرارة ما عرف بثورة 1936.

لم تطالب غالبية المسلمين والمسيحيين بإقامة دولة فلسطين المستقلة مع زوال الانتداب، بل هم أرادوا الانضمام إلى دولة عربية أو إسلامية، فيما أعلنت الأقلية اليهودية ـ ومعها الدروز والبدو ـ أن فلسطين الانتداب هي دولتهم، وأسموها إسرائيل، فاندلع صراع وصل إلى الأمم المتحدة، ورضيت الأقلية بقيادة يهودية بقسمها، ولم ترض الغالبية بقيادة المسلمين بقسمها، فذهبت الضفة الغربية والقدس الشرقية إلى الأردن، فيما أصبح قطاع غزة جزءً من مصر.

على مدى 19 عاما حتى العام 1967، لم يُقِم الفلسطينيون دولة فلسطين في الضفة الغربية وقطاع غزة مع عاصمة في القدس الشرقية، ولم يمانعوا غياب سيادتهم وعيشهم تحت حكم الأردنيين أو المصريين، وشاركت تيارات فلسطينية كبيرة، بل قادت، القومية العربية وحلم إقامة دولة عربية من المحيط إلى الخليج، لكنه حلم تحطم مع هزيمة جمال عبدالناصر أمام إسرائيل، أي "النكسة"، في 1967.

إن حق تقرير المصير والسيادة عملية معقدة، فيها شيء من التاريخ، وشيء من الصدف، والكثير من القانون الدولي

وللتعويض عن خسارته، رعى عبدالناصر إقامة ميليشيات فلسطينية شنت حرب عصابات ضد إسرائيل. تلك كانت نقطة بداية الهوية الفلسطينية المبنية على فلسطين الانتداب ـ الدولة الانتدابية الهجينة التي عاشت 28 عاما بدون سيادة ـ قبل أن يصبح جزء منها إسرائيل، وتذهب الأجزاء الأخرى إلى الأردن ومصر.

لم يَسُد الفلسطينيون على فلسطين يوما، وهم حتى لو كانوا غالبية سكانية، وحتى لو كانوا يملكون غالبية العقارات، لا يعني ذلك تلقائيا سيادتهم، بل أن صاحب السيادة هو من أعلنها وفاز باعتراف عالمي بها، حتى لو كان أقلية، مثلما انتزعت تركيا السيادة على اللواء السليب ذات الغالبية العربية ونالت اعترافا بذلك، ومثلما حصل العرب على السيادة على مناطق الكرد وغيرها.

والسيادة أو عدمها عملية متواصلة تحتاج إلى موافقة حكام الأرض واعتراف المجتمع الدولي، وهو ما حاول الكتلان في إسبانيا، والإسكتلنديون في بريطانيا، والكرد في العراق القيام به، وفشلوا، على الرغم من ملكيتهم للأرض التي يعيشون عليها، إذ ذاك ارتضوا حكما ذاتيا كحل وسط.

إن حق تقرير المصير والسيادة عملية معقدة، فيها شيء من التاريخ، وشيء من الصدف، والكثير من القانون الدولي. أما التباكي على النكبة والنكسة، وشعارات "ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة" و"ما ضاع حق وراءه مطالب"، فمرواحة في الماضي وتجاهل للمستقبل.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.