ما زال من المبكر معرفة متى وكيف ستنتهي هذه الأسابيع التي تعتبر الأطول والأخطر في التاريخ المعاصر، والتي سبّبها فيروس جديد نشر الرعب في العالم وأثار الكثير من الأسئلة التي لم تجد أجوبة لها بعد.
أحد هذه الأسئلة يتعلّق بسبب هذا التفاوت بين سميّة هذا الفيروس بين منطقة وأخرى ولماذا يبدو شديد العدوى وخطير المضاعفات ويؤدي إلى أعداد كبيرة من الإصابات والوفيات في بلد دون آخر؛ فحتى اليوم تتركّز 85 حتى 90 في المئة من الإصابات والوفيات من فيروس كورونا المستجد في أوروبا والولايات المتحدة الذين لا يشكّلون سوى 15 في المئة من سكان العالم، ومن الصعب الوصول إلى إجابات قاطعة حول هذه التساؤلات في هذه المرحلة المبكّرة، ولكن أضيف إليها مؤخرا مؤشرات على تفاوت سلوك الفيروس بين ولاية وأخرى ضمن أميركا نفسها.
فقد أعلن عن أول إصابة بفيروس كورونا في الولايات المتحدة في 21 يناير الماضي في مدينة سياتل في ولاية واشنطن في أقصى الغرب الأميركي لشخص عائد من مدينة ووهان في الصين، ولحقتها بعد بضعة أيام ولاية كاليفورنيا، بينما تأخّرت أول إصابة في نيويورك أربعين يوما تقريبا حتى 29 فبراير التالي، ولكن خلال أسابيع قليلة استفحل انتشار الوباء في نيويورك حتى تجاوزت ولاية نيويورك بفارق كبير أعداد الإصابات والوفيات ليس في كاليفورنيا وولاية واشنطن فقط بل في الصين نفسها.
فعدد الوفيات الذي كان في ولاية واشنطن عند كتابة المقال أقل من 350 شخص، في مقابل تصاعد من دون توقف في ولاية نيويورك إلى عدة آلاف. ومع انتشار وباء كورونا في بقية الولايات الأميركية تراجع ترتيب ولاية واشنطن من ناحية أعداد الإصابات والوفيات مقارنة مع بقية الولايات إلى المرتبة العاشرة، لأن ولايتي كاليفورنيا وواشنطن حافظتا على معدل يومي منخفض لتزايد الإصابات بحدود 8 في المئة وتراجع مؤخرا إلى دون هذه النسبة بما يشبه النموذج الصيني من وباء كورونا، بينما كانت أعداد المصابين في ولاية نيويورك تتضاعف كل ثلاثة أيام في بعض المراحل بما يشبه النموذج الإيطالي.
إذا تأكد أن فيروس كورونا قد تعرض لتحوّر أثناء تنقله في العالم جعله أكثر خطورة فهذا يدفع إلى مزيد من القلق
وأرجع خبراء أميركيون، من بينهم الفريق الطبي الرئاسي لمواجهة كورونا، هذا التفاوت في أعداد الضحايا بين ولايات الغرب الأميركي وولاية نيويورك إلى التزام سكان الغرب بالتعليمات الصحية، وإلى الاكتظاظ وشبكة المترو في نيويورك؛ ولكن هذا التفسير لا يبرر تفشي الوباء بشكل سريع في ولايات أخرى مثل نيوجيرسي وميتشغان (تحتلان الآن المركزين الثاني والثالث بعد نيويورك في عدد الإصابات رغم عدم وجود شبكة مترو مكتظة في ميتشغان، التي تجاوزت كاليفورنيا في عدد الإصابات وأصبح عدد الوفيات فيها ضعف عددهم في كاليفورنيا، رغم أن عدد سكان الأخيرة أكبر بأربع أضعاف).
ومن الصعب إرجاع التفاوت في سرعة انتشار العدوى بفيروس كورونا بين نيويورك وولاية واشنطن إلى الفروق المناخية أو اختلاف التركيبة السكانية؛ فالولايتين متشابهتين في هذه النواحي، مما يطرح احتمالا آخر وهو أن فيروس كورونا "الصيني" الذي انتقل من الصين مباشرة إلى ولايات الغرب الأميركي على المحيط الهادي كان أبطأ في سرعة نقل العدوى من الفيروس المعدّل "الإيطالي" الذي دخل نيويورك قادما من إيطاليا وإيران، بما يوحي بإمكانية أن تحولا قد طرأ على الفيروس في هذين البلدين أعطاه هذه القدرة الاستثنائية على العدوى.
ويمكن التدليل على سرعة عدوى هذا النموذج "الإيطالي" من خلال النسبة العالية التي لا سابقة لها في أعداد الإصابات والوفيات بين الأطباء والكادر الطبي بسبب وباء كورونا في دول الغرب، فقد وصل عدد الأطباء الذي توفوا من كورونا في إيطاليا إلى 73 طبيب ترافق مع إصابة أكثر من عشرة آلاف عامل بالمجال الطبي بهذا المرض. وفي إسبانيا قالت وزارة الصحة إن 13.6 في المائة من المصابين بفيروس كورونا هم من العاملين في القطاع الصحي، ومع أن بلدان الغرب هي الأكثر تطورا بين دول العالم ورغم أن الكادر الطبي فيها كان يرتدي معدات حماية فردية تشبه ثياب رواد الفضاء لكن ذلك لم يمنع إصابة الكثير من أطبائها وممرضيها بالعدوى.
في ظل غياب استراتيجية شاملة لمواجهة هذا العدو البالغ الخطورة سيبقى الإنسان وحضارته تحت رحمة المجهول
إذا تأكد أن فيروس كورونا قد تعرض لتحوّر أثناء تنقله في العالم جعله أكثر خطورة فهذا يدفع إلى مزيد من القلق، لأنه مثلما أدت طفرة إلى انتقال فيروس بشكل مفاجئ من أحد الحيوانات إلى البشر ثم إلى اكتسابه قدره على الانتقال من إنسان إلى آخر مسببا مرض كوفيد-19 الذي أدى إلى تهديد العالم من أقصاه إلى أقصاه بما قد يغيّر نمط الحياة التي عرفناها لعقود مقبلة، فإن تغيرا ما في صفات وقدرة هذا الفيروس قد تجعل منه أشد خطرا بحيث تصعب مواجهته، لأن الصراع الذي نعيشه اليوم كشف عن عجز الإنسان وعدم جاهزيته لمجابهة هذه الكائنات، وأوضحت أن شعور الأمان والثقة المبالغ بها بالنفس التي كنا نعيش فيها لا تستند إلى أسس متينة.
وباء كورونا الحالي ليس أول إنذار يتم توجيهه للإنسان لإعطاء موضوع الأمراض الفيروسية الاهتمام الذي تستحقه، فقد سبقته خلال العقود الماضية إنذارات عديدة، ففي عام 1976 ظهر فيروس إيبولا الذي انتقل أيضا من خفاش والذي سبّب مرضا خطيرا حمل نفس الاسم تراوحت نسبة الوفيات فيه في أفريقيا بين 50 و90 في المئة، وأتى بعده عام 1981 مرض الإيدز (فيروس نقص المناعة) الذي سبّبه فيروس انتقل من الشمبانزي للإنسان ونتج عنه حتى الآن إصابة 75 مليون إنسان بالمرض توفي منهم 32 مليون.
وهناك "سارس" الذي اكتشف عام 2002 في جنوب الصين والذي تصل نسبة الوفيات فيه لعشرين في المئة. وكذلك "ميرس" الذي اكتشف عام 2012 في السعودية والذي يسبّبه فيروس تاجي آخر ينتقل من الجمال. أي أن تعرّض الإنسان لفيروس يهدد وجوده لا يقتصر على أفلام الخيال العلمي بل هو واقع عشنا خلال الأشهر الماضية شيئا قريبا منه، لأنه في ظل غياب استراتيجية شاملة لمواجهة هذا العدو البالغ الخطورة سيبقى الإنسان وحضارته تحت رحمة المجهول.