قال صديقي الصيدلاني إنه دخل في جدال طويل مع أحد رجال الدين حول ضرورة توعية الجمهور بعملية استخدام الواقي الذكري، حيث اعتبر الأخير أن هذا الأمر يمثل تشجيعا للرذيلة فضلا عن كونه يخالف بشكل واضح أوامر الإسلام التي تحرم ممارسة الفواحش ومن بينها الزنا.
وكان هذا الجدال قد طفى على السطح قبل عامين في السودان، عندما طالب أحد نواب برلمان حكومة الإخوان المسلمين باستدعاء وزير الصحة لمساءلته عن قيام الوزارة بتوزيع الواقي الذكري في الجامعات مجانا.
بداية يجب التأكيد على أن الواقي ليس شرا مستطيرا أو بعبعا مخيفا ولكنه ببساطة وسيلة للسيطرة على الإنجاب ولمحاولة تفادي انتقال الأمراض الناتجة عن العلاقات الجنسية. ومن الممكن استخدامه في إطار العلاقة الزوجية المشروعة أو خارجها. وبينما يعترض البعض على استخدامه خارج إطار الزواج، فإن هناك من يرفض اللجوء إليه كلية. وأغلب الآراء الرافضة له تستند إلى منطلقات دينية.
أما استخدامه في إطار العلاقة الزوجية فهو أمر مباح من الناحية الشرعية إذا لم يكن الهدف الغائي منه هو القطع النهائي للنسل، فهو يفيد معنى العزل الجائز الذي قال بخصوصه الصحابي جابر: "كنا نعزل والقرآن ينزل" وزاد عليه مسلم بالقول: "فبلغ ذلك النبي "ص" فلم ينهنا" وهو قول يعني أن العزل كان يتم في عصر الرسول وفي زمن نزول القرآن الكريم.
استخدام الواقي لا يتعارض أو يتناقض مع الدعوة للامتناع عن ممارسة الجنس خارج إطار الزواج بل هو مكمل لها
الذين يعترضون على استخدام الواقي خارج إطار الزواج يقولون إن الترويج له يعتبر دعوة مفتوحة لممارسة الرذيلة وشيوع الزنا والفاحشة ويفضلون اللجوء للوعظ الأخلاقي والديني الداعي للامتناع عن ممارسة الجنس خارج إطار الزواج باعتباره الحل الجذري لهذه الممارسة وما يترتب عليها من عواقب وخيمة ممثلة في الأمراض الخطيرة والحمل المؤدي للإنجاب "غير الشرعي".
غير أن واقع الحياة لا يتطابق مع هذا الوضع الطهراني المنشود، فممارسة الجنس خارج إطار الزواج تعتبر حقيقة ماثلة في كل مجتمعات الدنيا ولا يمكن تجاوزها والقفز عليها كما أن عواقبها (الأمراض والإنجاب) أصبحت تشكل خطرا اقتصاديا واجتماعيا حقيقيا على دول كثيرة وعلى وجه الخصوص الدول الفقيرة في العالم الثالث.
وبالتالي فإنه لا بد من إيجاد حلول عملية للتعاطي مع هذا الواقع، بحيث تسعى تلك الحلول لمنع انتشار الأمراض الخطيرة وتوقف الحمل والإنجاب "غير الشرعي" في ذات الوقت الذي تستمر فيه المناداة بالحل المثالي الذي يدعو للامتناع عن الممارسة الجنسية خارج إطار الزواج.
فيما يخص الإنجاب "غير الشرعي" في السودان فإن الإحصاءات تؤكد استقبال دور الرعاية الاجتماعية لمئات الأطفال "غير الشرعيين" (مجهولي الأبوين) سنويا، مع التأكيد على أن هناك أعداد كبيرة من هؤلاء الأطفال لا يتم التبليغ عنهم ولا يصلون لدور الرعاية حيث يتم التخلص منهم بطرق مختلفة مثل القتل والدفن والقذف في الآبار ومنهم من يصبح لقمة سائغة للحيوانات وغير ذلك من الأساليب التي تحول دون العثور عليهم وإرسالهم لتلك الدور.
أما الأمراض المنتقلة بواسطة الجنس فهي في تزايد مضطرد، حيث تفيد منظمة الصحة العالمية بأن أعداد المصابين بفيروس نقص المناعة "الإيدز" في السودان وصلت إلى 51 ألف حالة، في وقت يقدر عدد الأطفال المصابين (حتى سن 14 عاما) بثلاثة آلاف، وعدد النساء المصابات (15 عاما وما فوق) بـ 22 ألفا.
من الجلي أن هذه الإحصاءات لا تعكس الأرقام الحقيقية لأعداد المصابين بمرض الإيدز لأن هناك مجموعات كبيرة منهم لا يتم الوصول إليها بسبب ضعف الموارد والإمكانيات الطبية فضلا عن الموانع الثقافية والاجتماعية (الوصمة) التي تقف حائلا دون أن يكشف المرضى عن إصابتهم بذلك المرض.
في مواجهة هذه الحقائق المخيفة يصبح من الضروري إعمال كل الأساليب والوسائل المتاحة لتجنب المخاطر الناتجة عن ممارسة الجنس خارج إطار الزواج. وأكثر هذه الوسائل فعالية حتى الآن هو الواقي الذكري (الكوندوم).
بحسب برنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بفيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز فإن الواقي الذكري يعتبر الوسيلة الوحيدة الفعالة المتوفرة لتقليل خطر انتقال الإيدز والأمراض الأخرى التي تنتقل بواسطة الاتصال الجنسي وأنه في حال استخدام الواقي الذكري باستمرار وبطريقة سليمة فإن خطر انتقال مرض الإيدز يقل بنسبة تتراوح بين 80 ـ 95 في المئة.
الرؤية الدينية المستنيرة يجب أن تؤيد استخدام الواقي لتجنب الحمل والإنجاب "غير الشرعي"
وفيما يخص موضوع الحمل فإن إحصاءات جمعية الحمل الأميركية تفيد بأن نسبة نجاح الواقي الذكري في منع حدوثه قد تصل إلى 98 في المئة إذا تم استخدام الواقي بصورة مستمرة وبطريقة سليمة.
بجانب المشاكل الثقافية والاجتماعية التي تحول دون استعمال الواقي بصورة واسعة فإن مشكلة الأسعار المرتفعة لهذه الوسيلة لا تجعلها في متناول قطاعات كبيرة من المواطنين الذين يعانون أصلا من الفقر. لذا توجب على وزارة الصحة والجهات المختصة في المجال أن تقوم بتوفير الواقي مجانا بحيث يكون في متناول الفئات المحتاجة.
الرؤية الدينية المستنيرة يجب أن تؤيد استخدام الواقي لتجنب الحمل والإنجاب "غير الشرعي" دون أن يعني ذلك الترويج للفاحشة استنادا الى القاعدة الفقهية التي تنادي بدرء المفاسد الكبرى بالمفاسد الصغرى، فالشخص الذي يزني يرتكب مفسدة واحدة يتحمل وزرها ويعاقب عليها، أما الذي يزني وينجب طفلا "غير شرعي" فهو يرتكب مفسدة أكبر (مفسدتين) تعود أحداهما بالضرر على المجتمع ككل.
في هذا الإطار، روى ابن قتيبة في كتابه "عيون اﻷخبار" قصة رجل جاء إلى اﻹمام ابن الجوزي وقال له: "يا إمام، لقد زنيت بامرأة وحملت مني بالحرام، فقال له الإمام: ويحك لماذا لم تعزل عنها حتى ﻻ تبوء بإثم الولد فوق إثم الزنا؟".
إن الحفاظ على النفس هو أحد أهم المقاصد الكلية للتشريع الإسلامي، وبالتالي فإن في ضمان حفظ النفس مصلحة وفي إهدار الحفاظ عليها مفسدة يجب دفعها. وما دام الغرض من استخدام الواقي هو الحفاظ على النفس بتجنيبها التعرض للأمراض المهلكة فإن في ذلك مصلحة يجب عدم تفويتها.
إن استخدام الواقي لا يتعارض أو يتناقض مع الدعوة للامتناع عن ممارسة الجنس خارج إطار الزواج بل هو مكمل لها. ولذا فإنه يتوجب ترك الوزارة والجهات ذات الصلة تقوم بدورها في هذا الصدد بينما تقوم البقية بدورها في الوعظ والإرشاد. وعندما تتكامل الجهود سنحرز تقدما في هذا المضمار مثل الذي أحدثته دولة أوغندا التي استطاعت أن تقلل عدد المصابين بمرض الإيدز بصورة كبيرة باعتماد خطة شاملة تستند إلى الإخلاص في الزواج بجانب استخدام الواقي