People queue to buy food supplies at a supermarket in Kuwait City on March 11, 2020. - Kuwait announced the suspension of all…
طوابير من المتسوقين في سوبرماركت في الكويت

في صراعنا البشري الحالي من أجل الوجود، تظهر مشاكل غريبة طريفة، لا تبرير منطقي واضح لظهورها. كما تظهر مشاكل مرعبة عميقة، أسبابها مفهومة، ودوافعها متوقعة توقعا بعيدا خياليا، كما لو أننا نشاهد فيلما مستقبليا قاتما، نتوقع أحداثه من خلال فهمنا لطبائعنا البشرية وتوقعنا لظهور أسوأ جوانبها في أوقات الشدة. 

أنظر في الأحداث حولي، أتخيل نفسي فيما لو اشتدت الظروف وتحول الصراع من أجل البقاء إلى حرب شوارع، هل سأحافظ على القيم والمفاهيم الأخلاقية التي ما زلت أتكلم حولها في مواقع التواصل الاجتماعي؟ هل سأحافظ على مفهوم التعاضد الإنساني الذي أكتب حوله مرارا وتكرارا أم أن غريزة الدفاع عن نفسي وعن أولادي ستأخذ مكانها الطبيعي لتحولني من كائن إلى كائن آخر، لتنقلني من منظومة أخلاقية إلى أخرى مختلفة تماما؟ 

أشعر أحيانا بأنني أتكلم من منطلق مرفه، لم يختبر بعد تهديدا حقيقيا، وأشعر أحايين أخرى أن هذا "المنطق المرفه" هو اختباري الحقيقي، هو كل المتبقي من إنسانيتنا. هل سننجح في التشبث به أم سنتركه على قارعة الطريق عند أول منعطف حاد؟

من طرائف المشاكل الناتجة عن أزمتنا الوجودية الحالية هي طرفة تهافت الناس على سلع معينة في المجتمعات المختلفة، دون أن يبدو هناك تبريرا واضحا لهذا التهافت على هذه السلع تحديدا. هل هناك الإنسان "صفر" الذي بدأ يشتري كميات من هذه السلعة ويثير فزع الناس حول اختفائها من السوق مما نقل مخاوفه للآلاف ثم الملايين ممن يعيشون في مجتمعه؟ هل الجزع تجاه سلعة معينة هو وباء مثل فيروس كورونا ينتقل عبر التخالط وابتلاعنا لرذاذ غيرنا؟

هذه المناحي السلوكية ستنتهي بانتهاء الكارثة الوبائية وستظهر مجددا بوقوع كارثة بشرية أخرى 

في الكويت كانت هناك هائجة بصل، تهافت الناس على شرائه بشكل غير طبيعي حتى أصبح نافذا في معظم الجمعيات التعاونية وأسواق الخضار والفواكه. لم يكن منطقيا هذا التهافت مطلقا، فالجمعيات التعاونية وأسواق الطعام مليئة بالخير الوفير، والحكومة الكويتية تبقى تطمئن الناس لوفرة الطعام ولوصوله لكل محتاج.

إلا أن هائجة البصل هذه لا تريد أن تتوقف، حتى بدأت أكياس البصل تنفذ من الأسواق في ساعات الصباح الأولى، في إشارة إلى فعل غير مفهوم مطلقا؛ فأولا، يمكن الطبخ بلا بصل، لن نموت جوعا إذا ما لم يدخل هذا المكون في طعامنا؛ وثانيا، لن تكون هناك استفادة فعلية من تكديسه، فآجلا أم عاجلا سيتعفن هذا البصل، فلا من يكدسه سيأكله ولا ترك غيره يستفيد منه.

نسمع كذلك عن هائجة شراء بيض في السعودية، ومثلها لمحارم الحمام في بريطانيا وأميركا، وتلك حقيقة هي الظاهرة غير المفهومة مطلقا. ربما يمكن فهم الخوف تجاه نفاذ البيض والبصل من بعد معين، لكن الخوف من نفاذ محارم الحمام، أي منطق يمكن أن يبرره؟ 

A Lebanese fisherman fixes his fishing net after the authorities allowed them to work with protective measures against the…
كورونا يفاقم اللامساواة المتجذرة
استكمل فيروس كورونا ما بدأته الهزة التي أصابت لبنان منذ ظهور مفاعيل الأزمة الاقتصادية. حصل ذلك على وقع زلزالان متصلان، الثورة الاحتجاجية في 17 أكتوبر وإعلان رئيس الحكومة، عمليا، إفلاس الدولة اللبنانية. وهذه النتيجة الطبيعية لنمط الحكم الفاسد والمتوحش الذي ساد في السنوات الأخيرة.

ببساطة، إذا كانت مهمة محارم الحمام حيوية جدا في هذه المرحلة الوجودية أليس من الممكن أن تقدم ذات المهمة كذلك المحارم العادية؟ أي جزع نفسي جعل الناس تعتقد أنها تحتاج لتخزين هذه المحارم تحسبا لانقراض البشر ونهاية العالم؟ 

في مقال منشور على صفحة سي أن بي سي في 11 مارس، تشير الكاتبة كلوي تايلور إلى أن حالة الشراء من أجل التكديس تلك قد تكون نوع من أنواع المعالجة الشرائية التي نتحكم من خلالها بحالتنا النفسية وذلك نقلا عن المختص في علم النفس الاستهلاكي في جامعة الفنون في لندن بول مارسدن. فهذه الحالة، طبقا لتحليله، هي محاولة لإظهار شيء من التحكم في عالم لا تحكم لنا على أي من أوضاعه. 

يقول مارسدن كذلك إن هذه الحالة تشبع ثلاث احتياجات نفسية أساسية: الاحتياج للاستقلال أو التحكم، الاحتياج للتواصل بالآخرين والتشابه معهم وبالتالي إتيان ذات الفعل الذي يأتون، ثم الاحتياج لإظهار الكفاءة وبالتالي إشعار النفس بأننا "متسوقون أذكياء.". 

تنقل تيلور كذلك على لسان ساندر فان دير ليندن، وهو أستاذ مساعد في علم النفس الاجتماعي في جامعة كامبريدج، أن هناك حالة من "عدوى الخوف" تسري في المجتمع وتصيب الناس خصوصا حين تكون أقوال مؤسسة الدولة متضاربة بهذا الشأن. "حين يكون الناس متوترين تعوق عقلانيتهم،" يقول فان دير ليندن، "لذا هم ينظرون إلى ما يفعله الآخرون. إذا ما كان الآخرون يكدسون الأشياء، سيقودك ذلك لإتيان ذات الفعل". 

هذه السلوكيات تصنع مشاكل نتائجها قد تنطوي على بعض الخطورة، إلا أن لها مظهر كوميدي وتداعيات يمكن التغلب عليها سريعا

يذهب المقال باتجاه تبيان أسباب قليلة أخرى كلها تدور حول سيكولوجية البشر في أوقات المحن، وكيف أنهم ينظرون إلى بعضهم البعض، وينظرون إلى تاريخهم البشري، وينظرون إلى تجاربهم السابقة في محاولة منهم لحماية أنفسهم وبقائهم، ولتوفير ما يحتاجون في أوقات الأزمات، وفي محاولة لإظهار بعض من التحكم في وقت لا تحكم لهم في مجرياته ومعطياته مطلقا.

في بداية الأزمة، بدأ الناس في الكويت يتهافتون على محطات البنزين لملء سياراتهم، في ظاهرة بدت غريبة جدا، فالتعليمات أتت دافعة إلى البقاء في البيت والانعزال التام، لم سيحتاج الناس لسيارات مليئة بالبنزين؟ ربما يعود ذلك لما وصفه بيتر نويل موري، عضو الاتحاد النفسي الأميركي وجمعية علم النفس الاستهلاكي، كما تنقل عنه كاتبة المقال، أنه عملية ربط بتجارب سابقة. 

ينهال الكويتيون على محطات البنزين لربما لربطهم الكارثة الحالية بكارثة الغزو العراقي في 1990. يقول موري إن العالم يتصرف اليوم بهذه الطريقة تجاه فيروس كورونا ربما ربطا بكوارث وبائية أخرى ملحة في ذاكرتنا التاريخية، مثل تلك التي وقعت في 1918 مع الإنفلونزا الإسبانية والتي قتلت ما يقارب 50 مليون إنسان حول العالم طبقا للمقال.

هذه المناحي السلوكية ستنتهي بانتهاء الكارثة الوبائية وستظهر مجددا بوقوع كارثة بشرية أخرى قادمة في المستقبل لا محالة. تصنع هذه السلوكيات مشاكل نتائجها قد تنطوي على بعض الخطورة، إلا أن لها مظهر كوميدي وتداعيات يمكن التغلب عليها سريعا. 

لكن ماذا عن المشاكل المرعبة العميقة؟ ماذا عن نظرتنا تجاه بعضنا البعض وكأننا مصادر خطر متنقلة؟ ماذا عن "أنا ومن بعدي الطوفان"، هذا المفهوم الذي يصحو من موته مع كل كارثة بشرية كأنه "زومبي" بشع لا يمكن القضاء عليه؟ إذا واتت الجرأة النفسية، لربما يكون ذلك موضوع مقال قادم.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.